10-مارس-2023
مشهد لدمشق أواخر عام 1999

مشهد لدمشق أواخر عام 1999

منذ منتصف التسعينيات، وربما قبل ذلك، بدأت حمّى الألفين، عام ألفين، "كم هو محظوظ من سيرى ماذا يوجد وراءه" قال أبناء القرن العشرين.

سطع الاثنان والأصفار الثلاثة في عيون أصحاب المشاريع التجارية الصغيرة، فاستخدموها في ابتكار أسمائها: استديو 2000، صالون 2000 للحلاقة الرجالية، 2000 للإكسسوارات والعطورات، ألبسة 2000، مفروشات 2000، ومهن أخرى ارتبطت بالتكنولوجيا أو بتوقد الشباب وبما هو عصري وله علاقة بالموضة.

كنتُ كلما مررت في شارع تجاري جذبت عيني يافطة استديو 2000، الذي يبيع أشرطة الكاسيت والصور اللاصقة للمغنيين وأفلام الفيديو ولاحقًا أقراص الـCD. أمّا محال المهن التقليدية فحافظت على أسمائها المسكونة بروح الأصالة والشوارب، وبدا ذلك منطقيًّا، فليس مناسبًا أن يتحوّل اسم دكان أبو بهيج إلى خضروات 2000 على سبيل المثال.

كنّا نعدو أسرع، على الرّغم من أنّ ظهورنا كان مثقلة من حمل النعجة دولي وحصار العراق وحرب كوسوفو وموت الأميرة ديانا وأخبار حافظ الأسد الصحية ومجزرة قانا وفضيحة مونيكا لوينسكي وانتحار محمود الزعبي واتفاقية أوسلو

وهكذا كان مثل بوابة ضخمة ركضنا باتجاهها قرونًا لكي نفتحها ونعبر صوب المستقبل المغاير، حيث سنرتع في حياة كريمة قد نملّ فيها من كثرة السلام والحرية والازدهار والتقدم العلمي.

وكلّما مزقْنا ورقة "وزنامة الهاشمية واقتربنا منه أكثر كنّا نعدو أسرع، على الرّغم من أنّ ظهورنا كانت مثقلة من حمل النعجة دولي وحصار العراق وحرب كوسوفو وموت الأميرة ديانا وأخبار حافظ الأسد الصحية ومجزرة قانا وفضيحة مونيكا لوينسكي وانتحار محمود الزعبي واتفاقية أوسلو ونظّارات نجاح العطار وبرنامج حماة الديار وغرّة نجوى كرم ودول عدم الانحياز وصور مرشحي مجلس الشعب (الفئة ب) والخمسمئة ليرة أم الطربوش..

كنتُ أظنّ من المستحيل أن أفضّل الدوام على يوم عطلة، لكن ذلك حصل وتمنيّت لو نذهب إلى المدرسة، فقط لأرى الأستاذ يخطّ في زاوية اللوح من الأعلى: 1/1/2000. لكن لم يكن مؤكدًا مئة بالمئة أنّ ذلك التاريخ سيكون بداية عام جديد، فلربما يصادف موعد نهاية العالم كما تفوه بعض المتنبئين. لم نُلقِ بالًا لأولئك الغربان وتابعنا مشاهدة توقعات الأبراج على القنوات اللبنانية، التي ثبتنا جهاز التقوية أعلى الإنتيل المنتصب وسط السطح لنتمكن من متابعتها دون أن تملأ النقاط البيضاء الشاشة.

"بابا شو برجي؟".

"ما بعرف اسأل ماما" ثمّ يطلب جهاز التحكم ليقلب على نشرة أخبار.

كنتُ قد مللت انتظار السنة الجديدة تحت وطأة نعاس الجميع بعد الغداء، ولمّا ذهبتُ إلى المطبخ دون غاية عقب دخول أهلي في قيلولتهم، سمعتُ صوت سيارة توقفت أمام باب الدار. وأخيرًا، وصل أعمامي وعائلاتهم من حمص في سوزوكي عمي الذي يخطط لبيعها على بوابة الألفية الجديدة كي يشتري تاكسي عمومي.

بعدما احمّرت الخدود من كثرة البوس هممنا أنا وأولاد أعمامي ننقل أكياس الأغراض وسحاحير الفواكه إلى المطبخ. الكل مبتهج ومندفع وإن كانت نهاية العالم فلنسهر معًا ولنمت معًا، "أوووه حاج حكي فاضي" نفرت جدتي من نكتة عمي.

انطلقت السهرة، مسابقات وأغانٍ ورقص ودبكة ومذيعات جميلات على القنوات اللبنانية، أمّا سهرات التلفزيون السوري كانت مقيتة، فمذيعاتنا الرصينات قد ينسين أنفسهنّ ويتكلمن بالفصحى.

بالتأكيد لم يكن ملائمًا طبخ الأرز أو البرغل فترة المساء، الطعام يجب أن يكون مشويًّا، ولأنّ الجو بارد في الخارج فستوضع الأطباق الرئيسية الثلاثة داخل الفرن وليس على منقل الحطب، دجاج بالصينية، لحمة بالصينية، وسمك بالصينية.

كأناس يعيشون في فم البادية كان أكل السمك خلال رأس السنة طقسًا مقدّسًا، على الرغم من أننا جينيًّا نفضل لحم الضأن، فمن يعيش في السهول يعتاد الدنيا واضحةً وممتدةً أمام عينيه، لا جلادة له على البحث عن الحسك داخل كائنات رائحتها نتنة لأنّها لا تتعرض للشمس والهواء حسبما قالت جدتي، التي ماتت ولم تضع في فمها لقمة سمك واحدة.

رأس سنة إثر آخر، اكتشفنا أنّنا دخلنا الألفية بقدمنا اليسرى، وأنّ العالم لم ينتهِ فحسب بل توحش أكثر، وأنّ استديو 2000 معتم وبارد ومليء بصور الموتى.