21-يونيو-2023
نمات

يُحيل سوء الفهم أحيانًا إلى دلالاتٍ ومساحاتٍ من المعنى لا تصل إليها إجادةُ الفهم التي غالبًا ما تُبقينا في إطار المُتوقّع وضمن مسار الاستنتاجات والاقتضاءات المنطقية. ونحن صغار أسأنا فهم كلمات الكثير من الأغاني عندما كانت مخيّلتنا سريعةَ الانتشار ولا تتهيّب الواقع ورسوخَ أشيائه، ولمّا التصق الخطأ في الذهن أحببناه وتجاهلنا تصحيحه لاحقًا، ولم نكترث للكلام لأنّ الموسيقى كانت فطريّةً أكثر، فأخذتنا الألحانُ وابتكرنا لها كلماتٍ بلا معنىً وأصواتًا عبثيّةً تتناغم معها.

ما زلتُ إلى اليوم أغنّي مع صباح فخري "مش قادر قول إنتا الجاني عصفور على طول على أحزاني"، كم من الصعب إزاحتها وتثبيت مكانها عبارة "حصبر على طول على أحزاني". تقول فيروز في أغنية ضلّو تذكرونا "يا حزن السعيد التقينا وتودّعنا"، أسمعها في كلّ مرةٍ حزني السعيد ومُحالٌ ألّا أتذكّر حسني الزعيم، الرئيس السوري الذي نفّذ انقلابًا عسكريًّا ثمّ أُعدم بعدما حكم سوريا خمسة أشهر عام 1949. 

سألتُ أصدقائي على مجموعة في فيسوك نتواصل عبرها منذ هاجرنا من البلاد وافترقنا، إنْ سبق وتعرّضوا لمثل ذلك التضليل السمعيّ عند الإصغاء للأغاني، فأكّد لي أحدهم أنّ صوته كان يحجب صوت فيروز وهو يغني "قديش كان في ناس عمفرق طنطرناس" دون أن يتوقف عند المفردة غيرِ المألوفة لأنّ لبنان مثل سوريا فيه قرىً لها أسماء غريبة وعجيبة.

ونحن صغار أسأنا فهم كلمات الكثير من الأغاني عندما كانت مخيّلتنا سريعةَ الانتشار ولا تتهيّب الواقع ورسوخَ أشيائه، ولمّا التصق الخطأ في الذهن أحببناه وتجاهلنا تصحيحه لاحقًا، ولم نكترث للكلام لأنّ الموسيقى كانت فطريّةً أكثر، فأخذتنا الألحانُ وابتكرنا لها كلماتٍ بلا معنىً وأصواتًا عبثيّةً تتناغم معها. 

قصة صديقٍ آخر كانت مع فقرةِ المصالحة في "سهرة حب"، قبل أن يتجاوز الخامسة كان يندمج مع الكورال ويصيح "صنصوصوارينا ضلي ذكرينا"، ولمّا ميّزَ فيما بعد أنّهم يقولون "خلْصوا غنانينا" لم يتخلَّ عن صنصوصوارينا، بل تخيّلها سيّدةً تعيشُ بمفردها في قصرٍ شاسع، شعرها طويلٌ وتضع برنيطةً تشبه التي ترتديها السيّدات في مسرحيات الأخوين رحباني، أخبرَنا أنّ أصحاب صنصوصوارينا اعتادوا إقامة حفلةٍ كلّ فترةٍ في قصرها ليغنّوا ويرقصوا، لكن ما إنْ كانت تنتهي السهرة ويغادرون آخر الليل حتى يعمّ الصمت مجدّدًا أرجاء القصر وتعود لحزنها ووحدتها.

في عام 2012، في الفترة التي أخذتْ فيها المظاهرات تذوي بينما الثورة تتحوّل إلى حرب، انطويتُ على نفسي في بيتٍ استأجرناه أنا ورفاقي في ضواحي دمشق خلال فترة الجامعة. كنتُ أجدُ صعوبةً في الدراسة، أكلني الإحباط والخوف على البلد الذي يتجّه إلى مستقبلٍ مغايرٍ لذلك الذي رمينا إليه، فأمضيتُ أشهرًا في النوم والتدخين ومشاهدة الأفلام. من ضمنها فيلمٌ قرأت بعجالةٍ عنوانه الذي كُتب بقلمٍ أسود على قرص سي دي أبيض، كان لافتًا وشعريًّا للغاية، يا الله أيّ قصةٍ سيرويها فيلمٌ اسمه "الريح التي هزّت الشعيرة".

"يا شباب إنّه فيلمٌ رائع، عن قصةِ مجموعةٍ من الجيش الجمهوري الإيرلندي، كيف اختلفوا وتلوّثت قضيّتهم ولم تعد نبيلةً كما كانت في البداية، انظروا إلى العنوان "الريح التي هزّت الشعيرة"، الشُعيرة أعرفتموها؟ تلك التي تقع في مقدّمة البندقية فيأخذ المقاتل بواسطتها سمْتَ الهدف ثمّ يُطلق النار فيصيبه، لكنّ الريح هبّتْ واهتزّت الشُعيرة فحادت الرصاصةُ عن مسارها ولم تُحقّق الهدف، تمامًا تمامًا كما يحصل معنا الآن في الثورة، لقد اهتزت الشُعيرات يا شباب وضاع البلد".

جحخ

ظللتُ طويلًا أستحضر عنوان ذلك الفيلم وأطير فوق مساحاته الشعريّة الشاسعة، كم ثمّة رياحٌ تهبّ على امتداد حياتنا وتعصف بنا وبغاياتنا، وقد تنزعنا من أمكنتنا وترمينا بعيدًا عن أنفسنا.

مرّ نحو عشر سنينٍ أو أكثر، حتى طالعتُ منشورًا يتحدّث عن مخرجٍ بريطانيٍّ اسمه كين لوتش، من أشهر الأفلام التي أخرجها فيلمٌ عنوانه "الريح التي هزّت الشعير"، نعم الشعير وليس شُعيرة البندقية، نفسه صِنفُ الحبوب الأقلّ حظًّا من الحنطة، والذي ربما اهتزّت "شُعيرته" لذلك جاء شعيرًا بدل أن يكون قمحًا!

لا أدري كيف ألصقتْ عيناي في نهاية العبارة تاءً مربوطة، لكنّ قراءتي للعنوان بتلك الطريقة حصلت لأنّ شُعيرةَ فَهمي اهتزّتْ فأصبتُ دلالةً أبعد وأكثر توريةً وأشدّ حقيقةً، لأننا حين نكبر نعي أنّ حيواتنا لطالما كانت نِتاج شُعيرةٍ اهتزّت، وأنّنا لن نُصيب الهدف في منتصفه مهما صوّبنا بدقة.

في النهاية، ننظر إلى الوراء فنرى أنّ كلّ ما مررنا به على جانبيِ الطريق الطويل كان حضورًا مزيّفًا لأشياء كامنةٍ ومفقودة، وأنّنا لم نُصِب الغايات الأولى لأنّ الشرور تحقّقت بعدما قتلت جميع الاحتمالات الخيّرة. وعندما تحين لحظة إغلاق العينين نُدرك أنّ الحياة نسخةٌ مٌزوّرةٌ عن أصلٍ غير موجود، وأنّها مجرّد ريحٍ هبّت فاهتزّت الشُعيرة.