08-أغسطس-2018

ديلاكروا

أجسام نساء تتلوى عارية، سماوات عاصفة، صور عدة لمذابح وحروب، أطفال جوعى يلتمسون أثداء أمهاتهم الممزقة، خيول جامحة لا سبيل لكبحها. هكذا بدا العالم الذهني تجاه الحياة التي عاشها الرسام الفرنسي فرديناند فيكتور أوجيين ديلاكروا. بسبب جموحه هذا لقبة البعض بالأسد، بينما نظر إليه آخرون بأنه كان مزيجًا متناقضًا من الرقة والعنفوان، امتلك من الحكمة قدر ما اعتراه الفجور.

عندما رأى ديلاكروا أعمال الرسام الإنجليزي چون كونستابل أعجب كثيرًا بتناغم الإضاءة مع الألوان الزاهية

ولد أوجيين ديلاكروا في نيسان/أبريل من العام 1798، وهو العام الذي حشد فيه نابليون جيشه لغزو مصر. بدأ حياته طفلًا تتناوب عليه الأمراض إلى أن أورثته الهزل والضعف، وفي شبابه أنقذ مرتين من الغرق، وكاد أن يلقي مصيره في حريق ذات مرة، وأخرى تجرع فيها جرعة من السم دون قصد. هذه الحياة كانت كفلية بأن تجعله إنسانًا قلقًا من العيش، منطويًا على نفسه، تغمره خيالات حزينة ومأساوية. حتى أنه كتب لصديق له يدعي سولييه يصف فيها شبابه بأنه: "فرع غاب نحيل منعزل وملقى تحت رحمة الأعاصير."

اقرأ/ي أيضًا: رامبرانت.. يوميات المرح والاضطهاد

بذهن يتشبع بالثقافة الكلاسيكية، وقلب لا يزال يتوجس خوفًا من الحياة، بدأ أوجيين ديلاكروا دراسة الفن على يد الفنان الأكاديمي جيران، ومن ثم استكمل دراسته بتعاليم كل من روبنس ومايكل أنجلو وجيريكو.

يتحدث ألفريد دي موسيه في الكتاب الذي ضم اعترافاته؛ عن تلك الفترة من حياة أوجيين ديلاكروا الدراسية بأنه: "في ذلك الحين كان لا يكد من قراءة أعمال هوراس، وفرجيل، وتاسو، ودانتي، وكان شديد الإعجاب بأعمال فرجيل ودانتي".

ديلاكروا

عام 1821، كان الاتجاه السائد في فرنسا لتيار الحركة الكلاسيكية، التي كان يتزعمها حينذاك جاك لوي دافيد الذي كان يرى بأن غاية المضمون في العمل الفني هو الجلال الذي يصبغ على التعبير الوقار، وكان جيريكو قد سبق أوجيين ديلاكروا بحمل راية الرومانتيكية عندما عرضت لوحته الأشهر طوف الميدوزا التي تحدث عنها ديلاكروا في يومياته، بأنه بعد مشاهدته للوحة ذهل من روعتها إلى حد جعله هائمًا. وكان ذلك في العام 1819. عرض لوحته الأولى دانتي وفرجيل في الجحيم، ثار عليه النقاد والفنانون الكلاسيكيون، وتنبأ آخرون بمولد عبقري جديد ينشد الأثر الفني للألوان الزاهية والوجوه الوحشية.

عندما حمل آنجر راية التيار الكلاسيكي تحول الاهتمام الجامد بالتعبير عن المضمون إلى الاهتمام بجمال الخطوط والالتزام بالشكل الهندسي في بناء العمل الفني. وكان كل من جيريكو وأوجيين ديلاكروا يواصلان تنمية الحركة الرومانتيكية، وقتها أخذ بالاهتمام بالتعبير عن الحالة الشعورية والذهنية في العمل الفني من خلال الألوان الزاهية والحركة داخل اللوحة.

مذبحة سافز-ساكس

عندما رأي أوجيين ديلاكروا أعمال الرسام الإنجليزي چون كونستابل أعجب كثيرًا بتناغم الإضاءة مع الألوان الزاهية، وفي هذه الأثناء كان قد انتهى من لوحة مذبحة سافز، وعلى حد قوله بدت شاحبة مقارنة بأعمال الرسام الإنجليزي. وعندما قدمها للمشاركة في صالون عام 1824؛ كان يشعر بأن اللجنة قد وافقت عليها دون رغبة كاملة مما جعله يطلبها قبل العرض بأيام قليلة لإصلاح بعض الألوان، ولم ترفض اللجنة طلبه. يقول: "أمضيت أربعة أيام في حمى مستمرة أدرس أسلوب كونستابل باهتمام بالغ في كيفية وضع الألوان وكذلك الطريقة التي يشبع بها الضوء في لوحاته مطبقًا في نفس الوقت هذا الأسلوب على لوحتي، وعندما قدمتها قبل الافتتاح كانت ألوانها لم تخف بعد، وفوجئ أعضاء اللجنة برؤية اللوحة بهذا الاختلاف، إلا إنهم لم يشكوا في إنها هي التي كانوا قد قبلها".

كان أوجيين ديلاكروا قد استوحى الفكرة من الحرب الناشئة بين الترك واليونانيين مستلهمًا من أشجان واستبسال بايرون هذه اللوحة، التي عدت من أروع آثاره في نظر معظم النقاد.

 الرحلة الأولى: بريطانيا

على الرغم من إنه كان يرغب في زيارة إيطاليا لمشاهدة أعمال فناني عصر النهضة وآثار مايكل أنجلو، چورچوني، رافايللو، تتشيانو. إلا إنه اتجه صوب الشمال نحو بريطانيا التي كانت مهد الرومانتيكية حينذاك، وهناك تسنى له مشاهدة روايات هاملت، وماكبث، وعطيل.. لشكسبير، كما أعجبه كثيرًا تفاعل الجمهور مع العرض على عكس الجمهور الفرنسي الذي كان يقابلها بالصفير وكثيرًا بالاعتداء على الممثلين بسببها، ولم يكن يفطن لقيمتها في ذلك الوقت غير الرومانتيكيين - على حد قوله - وأظهر إعجابه أيضًا بالعديد من الفنانين والأدباء البريطانيين، خاصة أعمال وولتر سكوت، وملتون، وبايرون. واستوحى من قصائد الأخير لوحته موت سارداينابال؛ مرة أخرى. وكان قد بدأ فيها منذ عودته وحتى عرضها في عام 1827.

الرحلة الثانية، الشمال مرة أخرى

يعبر أوجيين ديلاكروا عن إعجابه برحلته نحو المغرب والجزائر وبأنها تركت أثرًا كبيرًا في نفسه؛ فدون في هذه الرحلة العديد من الملاحظات تجاه الألوان والملابس وتعبيرات الوجوه العربية، وعبر عن إعجابه الشديد بالخيول العربية. ومنذ عودته شرع في تخليد تلك الرحلة التي ضمنتها أعمال عديدة بعضها لوجوه نساء عربيات كلوحة فتاة جزائرية. وأعمال أخرى تصور فرسان بزي عربي يصطادون الوحوش، وأخرى تصور الخيول العربية. وباتت تلك الأعمال من أهم آثار ديلاكروا وذلك بعد أن قام الرسام المعاصر بيكاسو باقتباس بعض أعماله الأخيرة من اللوحات التي خلد فيها رحلته للجزائر.

كان التلاقي بين شتى الفنون المختلفة هو السمة الرئيسة جراء ازدهار وتطور الحركة الرومانتيكية. فقد كان يحيط بديلاكروا أصدقاء كثيرون؛ كالأديب الشاعر چيرار دي نارفال، والكاتب الفريد دي موسيه والذي تتطرق بالحديث في سيرته الذاتية اعترافات طفل من قرن عنه في فقرات مختلفة وأوقات متفاوتة من حياته، والأديب بلزاك، وأيضًا الموسيقار شوبان، والشاعر تيوفل جوتييه، وجمعته صداقة قوية بالكاتبة لامانتين لوسيل والتي قد رسمها في لوحة حملت اسمها المستعار جورج صاند. وعدا الشاعر والناقد شارل بودلير من أكثر المتحمسين لفنه والمدافعين عنه أمام الكلاسيكيين والنقاد، كما لقبة بعاشق العشق، وهو يرى إن أهم ما يميز أعمال أوجيين ديلاكروا هي الألوان التي عدت في فنه وحده، لغة قائمة بذاتها أشبه بلغة الموسيقى، فتنتقل إلينا معانيها عن بعد وتؤثر في نفوسنا؛ حتى قبل أن نتبين الموضوع الذي تمثله اللوحة.

ديلاكروا

تنقسم يوميات ديلاكروا إلى قسمين: جاء الأول منها في شكل ملاحظات وآراء خاصة في الفن وبعض الفنانين وأعمالهم، وبعض الشذرات التي كان ينثرها أثناء رحلته الأولى التي تضمنت رأيه في الأدباء والشعراء البريطانيين، وبعض الملاحظات في أعمال رافائيل وغيره من الفنانين الإيطاليين، وتضمن القسم الثاني منها جانب من حياته الشخصية، والتي يتبين فيها ولعه وحبه للنساء، اللواتي يلهبن حماسته تجاه الحياة، فكان لا يكف عن مطاردتهن أينما وجدن.

يعبر ديلاكروا في يومياته عن إعجابه برحلته نحو المغرب والجزائر وبأنها تركت أثرًا كبيرًا في نفسه

ضمت لوحة اليونان فوق الأطلال الدوقة بيري دالتون التي كانت من ضمن النساء التي أحبهن، كما يظهر من بعض الرسائل، وأخرى تدعى ميرا قد صورها في لوحته الأشهر موت سارداينابال، وكذلك الروائية جورج صاند والتي رسمها بمفردها، وأيضًا بعض الرسائل بينه وبين أخريات منهم الأميرة مراسلين والدوقة كولونا.

اقرأ/ي أيضًا: غرنيكا.. اللوحة التي ألهمت العالم

غير هؤلاء النساء كانت هناك العديد من الموديلات التي احتفى بهن وبجمالهن في أوراقه الشخصية كما في لوحاته. والملاحظة الأهم في هذا الجزء من اليوميات أنه على كثرة العلاقات الغرامية في حياته إلا أنها كانت قصيرة الأجل دائمًا. وعلى الرغم من حبه الشديد الذي كان يكنه لابنه عمه چوزفين دي فورجيه، إذ دامت علاقتهما لأكثر من عشر سنوات، إلا إنه لم يتزوج منها. فكان كما يقول بعد كل علاقة إنه يعيش للفن وحده والذي يعد هواه الأكبر، حتى إنه قد عبر عن أسفه عن ذلك في إحدى الشذرات بأنه لم يولد شاعرًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بول كلي.. أن تتكلّم بلغة الألوان

ما هي السوريالية ومن أبرز من مثّلها من الفنانين؟