26-أبريل-2016

خالد ضوا/ سوريا

كنت في الصف الخامس الابتدائي حين انطبلت البلد بخبر مفاده أن مذنّبًا عظيمًا سيمر قرب الأرض، وقد يصطدم بها أو قد يسبب مشاكل كونية لا يعلمها إلا الله وحده اختلطت علي الأسماء حينها وظننت أن اسم المذنب هو "هتلر".

ارتبط ظهور المذنب بحالة رعب سادت الشارع، تشبه تلك الحالة التي عشتها حين أصبحت شابًا عند وفاة حافظ الأسد

علمت أيضًا أن المذنب يمر كل ستة وسبعين سنة محاذيًا كوكب الأرض، وأنني من المحظوظين الأحياء الذين سيشهدون ذلك اليوم، في ما بعد أدركت أن اسم ذلك الرعب القادم هو "هالي"، نسبة للفلكي الذي رصده وحدد دورته في الفضاء بمدة 76 سنة كاملة، وأن ذكره ورد في كتب العرب كثيرًا قبل أن يكتشفه هالي نفسه بكثير من الوقت، حتى أن الشاعر العربي الكبير أبو تمام ذكره في قصيدته التي مطلعها: "السيف أصدق أنباء من الكتب"، كما ذكره كثيرون كابن إياس في كتابه "بدائع الزهور"، وابن الجوزي في كتابه "المنتظم"، فقد ألف عنه الفيلسوف أبو إسحاق الكندي رسالة بعنوان "رسالة خاصة فيما رصد من الأثر العظيم الذي ظهر في سنة اثنين وعشرين ومائتين للهجرة"، أي في العام 837. 

اقرأ/ي أيضًا: مصر الآن.. قبل سقوط النظام

حينها دب الهلع في قلوب الناس البسطاء، فبدؤوا بشراء الأشياء اللازمة لدرء شر المذنب القاتل النظارات الشمسية. ومنعنا نحن الأطفال لسبب لم نفهمه حينها من التواجد في الشارع ظهرًا، وكانت أمي تقول لي: أخاف عليك أن تفقد بصرك، وكانت أم صديق تقول له: أخاف عليك أن يحترق جلدك.

ارتبط ظهور المذنب بحالة من الرعب سادت الشارع تشبه تلك الحالة التي عشتها حين أصبحت شابًا عند وفاة رئيس سوريا السابق حافظ الأسد، ففي الحاليتن خلت الشوارع بقدرة قادر من الناس، وأغلقت المحلات التجارية، ثم اصفر الهواء وشحبت السماء، كل شيء كان ينذر بالويل كما لو أنك في فيلم "نهاية العالم" الذي أخرجه رولان إيميريش. 

الفرق الوحيد بالنسبة لي أنني كنت طفلًا حين ظهر مذنب هالي الذي غادرنا بهدوء شديد كأن شيئًا لم يكن، وأنني كنت شابًا حين ظهر رئيسنا الجديد بشار الأسد خلفًا لوالده المتوفي، وخلف عاصفة من التصفيق الهائل في مجلس الشعب، لدى تعديل المادة الرئيسية الخاصة بتحديد سن الرئيس الأدنى، لتناسبه وتخدم تطلعاته في اعتلاء سدة الحكم.

ولكن أكثر ما حفر في ذاكرتي كان تلك اللوحة التي قدمها أحد التلاميذ للمعلمة، حين طلبت منا رسم موضوع يعبر عن فرحنا بمرور أزمة المذنب وعدم اصدامه بكوكبنا الحبيب، علقت جميع الرسومات المميزة على جدران الممرات المدرسية ليراها كل زائر للمدرسة، ووقعت باسم التلميذ وبعبارة تمتدح قائد الوطن. 

اقرأ/ي أيضًا: الصومال.. حين استعادت "العمامة" مكانتها

كانت رسمتي تعبر عن فرح الناس في سوق الخضار ورجوع العربات محملة بالخيار والبندورة والبطيخ، بعد أن نفقت من الأسواق وقد كتبت تحتها كما أذكر عبارة لقني إياها والدي عن لسان القائد الخالد كما اعتدنا على وصفه: "المعلمون بناة حقيقيون لأنهم يبنون الإنسان، والإنسان هو غاية الحياة وهو منطلق الحياة". 

وضعت رسومات التلاميذ في الممر، ووقعت باسم التلميذ وبعبارة تمتدح قائد الوطن

أما لوحة صديقي الذي استشهد منذ مدة في السجون السورية، بعد أن تم حبسه لمشاركاته في المظاهرات التي اندلعت بعد أحداث درعا وانطلاق الثورة السورية، فقد كانت عبارة عن يد تحمل داخلها شمسًا ضاحكة وارتفعت سبابتها ووسطاها كإشارة تعني الشهادة أو النصر، وقد أعجبت بها جدًا وألححت على المرحوم حتى علمني كيف يمكن رسم اليد ببساطة بأن تمرر قلم الرصاص حولها بعد أن تلصقها بالورقة.

اللوحة التي قصدت أن أخبركم عنها كانت رسمًا للمذنب على شكل نطفة كبيرة جدًا يمتد ذيلها حتى آخر الصفحة، أما رأسها فقد امتلأ بوجه مألوف لكل السوريين، وجه كانت تخشاه الحيطان التي لها آذان ويخشاه صوت الأذان، كان الصديق قد اقتطع صورة وجه القائد الخالد الأمين من دفتر قديم ولصقها داخل النطفة المذنب.

- المدرسة: ما هذا؟
- التلميذ: حافظ الأسد يا آنسة "بقلب المذنّب".

لم نفهم لم مزقت المعلمة تلك الورقة بسرعة خارقة وارتبكت، ثم خرجت من القاعة وعادت مع مديرة المدرسة التي استدعت الرسام الصغير للخارج، ثم عاد بعد أن طلبتا منه أن يحضر والده للمدرسة في اليوم التالي. لم نفهم شيئًا مما حدث حينها، وكان صديقنا يحزن كلما مر في الممر ورأى رسوماتنا معلقة على الجدران، أما نحن فقد اعتبرنا أنه رسام فاشل وحسب.

اقرأ/ي أيضًا:

في مصر.. حتى الستر في خطر!

أيها المصريون.. الشوارع تنتظركم