25-أبريل-2016

عشوائيات على سفح المقطّم في القاهرة (Getty)

حين يقول لك مصري إنه "مستور" فهو يعيش وفق دخل محدود، يقل تدريجيًا وفقًا لقلة القيمة الشرائية للجنيه، وأمامه سعر يرتفع دون اتساق مع سلع لا تجد رقيبًا على أسعارها سوى ضمير التاجر الذي يريد أن يربح هو الآخر. حتى "الستر" أصبح في خطر. 

الجوع ليس فقط "شح" المواد الغذائية، بل تعطيل مصالح الناس والعدالة الانتقائية، وتلفيق التهم للمارة في الشوارع

كلام قد يبدو لا علاقة مباشرة له بالسياسة، ولكن من قال إن حبة الأرز تلك لا علاقة لها بالسياسة؟ يقول خوسيه مارتي مؤسس الحزب الاشتراكي الكوبي: "إن كل أمجاد العالم يمكن تحويها إلى حبة ذرة". كل الثورات في هذا العالم بدأت حين أصبح الحصول على لقمة العيش يجب أن يدوس في طريقه الكرامة الإنسانية. أقول هذا لأدلل على أن الجوع في مصر يطل برأسه الكبيرة على الحياة داخلها، لن يهشه أو يقلل من أثره تكافل هنا وصدقة هناك. يطل الجوع كما كانت تطل سفينة الفضائيين المتوحشين في فيلم "يوم الاستقلال" الأمريكي وينظر الجميع إليها بفزع.

اقرأ/ي أيضًا: أيها المصريون.. الشوارع تنتظركم

كانت دعوات النزول إلى الشارع في 25 من نيسان/أبريل الجاري قد بدأ الجوع يغذيها، والجوع الذي أعنيه هنا ليس فقط "شح" المواد الغذائية، بل تعطيل مصالح الناس والعدالة الانتقائية، وتلفيق التهم للمارة في الشوارع. 

من ضمن ما حفظه التاريخ الخطبة التي قالها الشاه حين خرج على الناس لينتقد تمرد العمال، حيث قال إنهم يتدللون على العمل وإنهم يطالبون بأشياء كمالية لا علاقة لها بحقوقهم، وإنهم ينالون حقوقهم وزيادة، وعليهم أن يعملوا فقط خيرًا لهم من الاعتراض. 

تذكرت كل هذا وأنا اسمع خطبة السيسي وهو يقول إنه لا يجب على المصريين الحديث عما لا يرضيهم لا في موضوع الجزيرتين، ولا في أي شيء آخر، لأن الحديث كما يقول "يسيء إلى الناس". 

حين قام السادات بحملة اعتقالات واسعة في العام 1981، فاعتقل كل سياسي أومعارض لا يرى في كامب ديفيد مستقبلًا للمصريين، وصادر الصحف وأغلق الجميعات الأهلية وسحب ترخيصها، كان يعرف أن عدوه في النخبة السياسية التي لم يستطع تدجينها، لكن النخبة السياسية في عهد السيسي مدجنة تمامًا الآن، بل إنها كانت من المعاول التي استخدمها هو نفسه في تصدير أفكاره ومبرراته للشارع الذي اعتنقها فيما بعد وبارك على إثرها مذابحه وبطشه.

اقرأ/ي أيضًا: مصر الآن.. قبل سقوط النظام

مع تسارع الأحداث في مصر تحولت النخبة المدجنة إلى ممتعضة في الخفاء، أو صامتة على أحسن تقدير، الفئات التي باركت القبضة الحديدية تضررت بضائعها على الموانئ، وتعاملاتها الدولارية في السوق السوداء.

ماذا يستر الناس في مصر؟ لا شيء، ولا حتى ورقة التوت الرقيقة من المعاشات وأرغفة الخبز

ماذا يستر الناس في مصر؟ لا شيء، ولا حتى ورقة التوت الرقيقة من المعاشات وأرغفة الخبز، والستر الرقيق الذي كان يتجاوز به المصريون المتن ليبقوا في الهامش. 

سؤال طرحه أحد الزملاء على الفيسبوك وهو: كيف وصل المصريون في جمعة الاحتجاجات الماضية إلى ميدان التحرير؟ وكانت الإجابة أنهم تمكنوا من ذلك بمعاونة أصحاب المحال التجارية المحيطة بالشوارع المؤدية لوسط البلد التي تحيط بالميدان من جهاته الأربعة. أدرك الناس في مصر بعد عملية طويلة ومرهقة أن الستر أوله من فوق، من صورة ذلك الرجل الذي يمسك الميكروفون ويأمرهم بالسكوت، ثم يتدرج ليصل إلى تحت حيث لقمة العيش ليس معناها الذل والركوع والتطبيل لأي طاغية مهما كانت قدرته. الأوامر العليا بإخفاء كل العناصر المهمة من مثيري الشغب في الشارع في المعتقلات حتى تمر هذه الفترة بسلام ثم يتفرغون لتلفيق التهم.

الخيط الرقيق الذي يلتف حول عنق السلطة، بدأت بشائره تلوح في الأفق مثل سفينة الفضائيين الكبيرة، ويتواتر طوال الوقت حديث عن صراع بين أجهزة الدولة على المواقف المعلنة، المصائر بالنسبة للتاريخ والجغرافيا وحتى الأدب ليست خفية على لبيب، لكن التفاصيل ملهمة وهي التي تصنع الحكاية الكبيرة التي ينتظرها الناس. 

اقرأ/ي أيضًا:

عن جماعة إثارة القلق حول السيسي

جمعة الأرض.. لماذا احتشد المصريون؟