01-نوفمبر-2020

لوحة لـ إغناثيو إيتيريا/ الأوروغواي

يراقب الأشياء عن بعد جالسًا على مقعده المعتاد في طرف الحديقة، لا يبحث عن شيء بذاته إنما یراقب الوجوه المارة فقط: وجوه سعيدة، وجوه ميتة، وجه تملأها حرارة الشهوة؛ شھوة الجوع، شھوة العطش، شھوة الإنصات لكل متحدث أبكم، بین یدیه وریقات اقتطعھا من جريدة متروكة على جانب الطريق. جریدة تئن لفجاعة استغلالھا، فھي تقرأ لمرة واحدة ثم ترمى كمجذوم أبله، كعادته ینقط الحبر بین زوایا الصفحات برویة ممارسًا طقسه الأھم قبل الكتابة، ثم في لحظة ما لا على القصد یكتب ثم یكتب ثم یكتب، مجھدًا من حمل الكتابة یقوم متعرقًا بكل لھاث نصوصه لیرمیه في النھر، نعم ھو یرمي الصفحات تلك مع كل ما كتبه كل یوم في النھر، لیس طقسًا من طقوس الربیع لیطعم فیه النھر، بل طقسًا من طقوس الحیاة المستنسخة وسط فلسفات الحداثة، بعد عشرين سطر من الكتابة المحمومة بالوجع كوجع ولادة طفل من دون أب، لن یقدر أحد أي أحد حتى ھو الكاتب أن یمیز أسطره عن أسطر الجریدة.

ذات مرة كتب في صفحة الحوادث قصیدة عن قصة حب ینتھي بموت سعید، مع أن الموت ھو الموت ذاته لمن یشربه، ومرة أخرى على صفحة الدین، كتب عن الخمر الذي شربه ذاك الصوفي في رحلة بحثه عن التماھي في الجوھر، یكتب في صفحة الریاضة عن الجندي الذي عاد من مسرحیة الحرب بید واحدة وھو الآن یرفع أثقال الحياة بصبره الذي ینتھي كل لیلة مع ملیون صرخة وجع.

ذات مرة كتب تحت اسم رئیس التحریر شهادة میلاد تغييب لنص لم یجد صاحبه القدرة على شراء قنينة الأوكسجين التي تبقیه یتنفس، لا بأس إنھا سخریة الجرائد المنسیة على المقاعد الصامتة ھكذا كان يفكر بكلاسیكیة باردة، ولم يخطر على باله نواح الجرائد الیومیة فما ذنبھا یا ترى لتبقى على قید الحیاة لیوم واحد فقط؟

نعم ھناك الكثیر من الكلمات التي تموت یومیًا في دواخلنا، وملايين الكلمات التي نصمت عن نطقھا خوفًا أو كسلًا، لا عذر لقساوة البشر.

رجلنا المنسي على حافة الغياب يغتال كلماته مع سبق الإصرار بدمجھا مع أسطر الجرائد ولا یكتفي بذلك بل یمثّل بھا برمیھا بعیدًا وأي بعید ھذا ھو النھر، ولمَ كل ذلك الموت المشین للكلمات؟ لیس سوى الخوف من أثرها المنسوب إلى سحر قدیم، سحر لم یخطه قلم حبر أو یدون على ورقة؛ بل خط بإزمیل وعلى لوح من الطین وبأحرف مسماریة حیث اللغة الأولى للتدوین، سحر استعباد الكلمات لكاتبھا یخیفه جدًا، یخیفه أكثر من ذلك الناي السحري الذي سحر الجرذان والأطفال ذات مرة، إنها كناي یجعل كل من یسمعه یتبعه من دون قدرة على الرفض أو المقاومة. إلا أنّ كل شيء تغیر بسبب نقطة حبر، نقطة موعودة كالمسیح المنتظر الذي یظھر لإصلاح الوجود، كانت تُبشّر بقدومھا كل النقط والكلمات منذ عشرين سنة، منذ أول نص مزّقهُ الرجل المنزوي في حافة الوجود الخائف من العلن، نقطة الظھور المباركة تلك كانت أزلية البقاء سرمدیة الوجود، كانت فقط تنتظر الساعة المناسبة للحلول على السطر، وما كانت تلك الساعة سوى ساعة الحب، عند أول نبض ینبضه الرجل بالحب ستولدُ النقطة التي تصنع الفارق.

النقطة "النبي" التي بیدھا كل معجزات الحبر، لن تأتي وبیدھا رمح بل ستأتي وبیدھا الأمان، ستھب من یخافھا الشجاعة كي یكتبھا وستھب من یھربُ عنھا القبلة التي لن تحوله إلى أمیر بل ستحوله إلى "ھو" وكیف ما كان فھي قبلة التقبل بالوجود.

عندما حرث صفحات الجریدة المقتطعة وسقى النص وزرعه بین أسطر الجریدة كعادته كان قد بدأ یشعر بالكثیر من الاختلاف ھذه المرة، بالكثیر من الخوف المطعّم برائحة الشتاء، لم تكن عندما نزلت تلك النقطة من قلمه سوداء كالبقية؛ بل ولدت صافیة كمرآة لامعة، أخافه كثیرًا انعكاسه، وأرعبه أن یرى الوجه الذي ھرب منه طویلًا: إنه وجھه ساعة الكتابة. كم هي طویلة تلك اللحظة! كم كانت مؤلمة بعطش الصحراء للبحر كانت شفتاه تتشقق، حتى أنه نھض مسرعًا مرتبكًا من دون أن یبالي بمن حوله من اللاحد ممسكًا بجریدته اللقیطة التي تحمل نصه بین أسطرھا بشدة، يحث الخطى متجھًا ناحیة النھر، ولكن ھذه المرة لم تكن خطواته بنفس اللامبالاة كمثل كل مرة؛ بل كانت خطوات ثقیلة جدا، تحولت المائة متر المعتادة إلى عمر بحاله.

لقد كانت مسیرة صلْب، تطھیر، فناء في ما لا یفقه من سحر. الجریدة تلتصق بیدیه أكثر وأكثر، والحبر یغزو دمه لیحّول دمه الأحمر إلى سواد محض. النقطة تخترق روحه ترمي في عقله وقلبه شباك صوتھا، وفي مجاھل البعد الذي اختزل فیه روحه كانت ذاته تعود لرشدھا، ھو القالب من دون معنى يبدأ المعنى بالرجوع إلى قالبه، لا یفقه كل ما یحصل له سوى النكران والاستغراب لما تفعله نقطة حبر. یا إلهي إنھا مجرد نقطة واحدة، إن المؤمن بالعدم أُصقل بنقطة حبر! لم یكن یعرف ساعتھا بأنها نقطة الانقلاب الغرائبي قد حلت على صفحة حیاته التي اعتاد محو كل ما یكتب علیھا، ھا ھي أخیرًا النقطة التي لا تكتب قد ولدت. لن یعود بعد الآن الطاغية ذاته سیكتب الكلمات ویدوّن الأسطر ویصحح الأخطاء ویجمّل النصوص بمراجعتھا لكنه لن یملك القدرة على اغتیالھا أو سجنھا؛ بل ھي النصوص من ستحبسهُ داخل أسطرھا، سیشم عبق الزھور التي یحكمھا بالذبول، وسیسمع الصریر؛ المخیف الذي یھبه للكراسي المیتة على حافة  الطريق، سیرى كل الحروب التي یرمي فیھا شخوص نصوصه، وسیشعر ببرودة الرؤوس المقطوعة وحرارة القبل الضائعة التي لم یقبلھا أحد، الوجع سیعیشه ما دام یشنق الحب، وما دامه یكتب البحر كثیرًا سیغرق حتى الجفاف. قرب النھر یركع باكیًا من شدة الضعف، یرید ولا یرید، یرغب ولا یقدر، يتمنى الرقص ولا یعرف، یحلم بالأحضان ولا شجاعة لدیه بطلب حضن، یكوي أحلامه بالتناسي مع أن نومه لم یحل بعد، صارخًا بكل ما یملك من صوت طالبًا مساعدة أي أحد: فلیرمِ معي الجریدة الملعونة ھذه، أي أحد أیھا الأغبياء فلیساعدني، فلتذھب عني نقطة بوذا ھذه بعیدًا، فلیجرفھا النھر إلى اللاعودة؛ لكن لمْ یسمعه أحد ولم یستشعر وجوده أحد، مع أن النھر ممتلئ بالصيادين وباعة القوارب الورقیة وخمسون طفلًا یرمون سناراتھم لصید الضحكات فھي تباع بما یشترون به الكثير من الحلوى.

یقف أمامهم مرتعدًا مشیرًا لھم إلى الشمس التي یبتلعھا حوت قد ضل طریق البحر واتبع زرقة السماء فلا یراه أحد، یتكور وسط الزحام على نفسه مرتجفًا من شدة الھلع فھو یوقن أنه ما عاد أحد، یصحو عند منتصف الليل من نومه لاعنا ھذا الحلم، ھذا الكابوس، یمد یده إلى وجهه إلى صدره إلى قدمه متأكدًا من وجود كل شيء في مكانه، یفرح بعد تأكده من وجوده؛ كفرح الأطفال التي تجد لعبھا الفاخرة المنسیة تحت الأسرّة، مقلبًا یدیه باحثًا عن خطوط یده المتفردة في عقدھا، یجد في باطن كفه عند المنتصف النقطة البیضاء تنتظره، یفرك عینیه ظنًا منه أنه في حلم آخر؛ لكنه لیس بحلم.

كانت ھي النقطة ذاتھا في انتظاره، يتراجع إلى الجدار منذھلًا وھو یراقبھا كیف تتحول إلى سیدة فارعة الطول تصل بطولھا إلى سمائه لتحجب عنه الحوت الذي التھم الشمس، راكعا أمامها یائسًا بعد طول انتظار لأي حدیث، یسمع صوتھا في قلبه مرددًا: تعال أیھا الخائف قایض روحك بجسدك، ھلم مسرعًا قایض ما تملك بما لا تملك، تعال ته في رحمي، ھناك ستكتب الأبدیة، وھناك ستُسجن، ومن ھناك ستولد من جدید. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

جنة العميان

عرق التاج