13-نوفمبر-2018

تستخدم نتفليكس بيانات المشتركين في معركتها للسيطرة على إنتاج الأفلام والمسلسلات (Getty)

افتتحت أول دار عرض سينمائي في العالم عام 1895 في برلين، وكانت أول دار عرض تاريخيًا تعرض الأفلام الصامتة للجمهور، وكانت بداية حقبة جديدة في عالم الفنون المرئية. وبعدها توالت افتتاحات دور السينما في أوروبا وأمريكا الشمالية، وأجزاء أخرى من العالم.  

تعد قاعات السينما مصدر الربح الأساسي لصناع الأفلام، لكن في الأعوام الأخيرة ظهر منافس جديد هو خدمات البث عبر الإنترنت

تقوم صناعة الأفلام بشكل عام على صالات ودور عرض الأفلام، حيث تعد هذه القاعات هي مصدر الربح الأساسي للأفلام، عن طريق بيع التذاكر للجمهور. والآن وبعد أكثر من 120 عامًا على افتتاح أول قاعة سينمائية، ما زالت لهذه القاعات الأهمية نفسها عند منتجي وصناع الأفلام، حيث يُقاس نجاح الفيلم أو فشله من الأسبوع الافتتاحي الأول للعرض في دور السينما في مكان ما، ثم في جميع أنحاء العالم.

ولكن مؤخرًا، بات هناك من يُنافس دور السينما في العرض، فمنذ عدة أعوام، سعت إحدى خدمات البث إلى عرض الأفلام عبر الإنترنت، ما شكل تحديًا أمام صناعة الأفلام بشكل عام، حيث لم يعد على المشاهد أن يخوض غمار تجربة السينما، وإنما يمكنه بناء سينما منزلية لمشاهدة الأفلام التي يريد وبجودة عالية.

فهل تشكل خدمة البث هذه تهديدًا حقيقيًا لعرش هوليوود وصناعة الأفلام؟ أم أنها تشكل خط إنتاج موازٍ لها؟ هل يمكن التخلي عن تجربة السينما؟ وهل يمكن نقل تجربة السينما إلى البيت؟

تاريخ نتفليكس

نتفليكس هي شركة أميركية تأسست عام 1997 على يد ريد هاستنغز ومارك راندولف، لتكون شركة بيع وتأجير الأقراص المدمجة مثل شركة بلوكبوستر، والتي كانت المنافس الوحيد حينها.

انطلقت نتفليكس بثلاثين موظف و925 فيلم متوفر للتأجير فقط. قدمت الشركة مفهوم الاشتراك الشهري لأول مرة في مجال تأجير الأفلام عام 1999، وهو ما يتيح للمستخدم إمكانية تأجير غير محدودة وبدون تواريخ استحقاق، ولا رسوم تأخير حتى، وهو الأساس الذي قامت عليه سمعة الشركة بالمقام الأول.

واعتُبرت نتفليكس من أنجح المشاريع في ذلك الوقت، حيث سجلت صحيفة نيويورك تايمز أن الشركة قد أرسلت حوالي 190 ألف قرص مدمج في يوم واحد إلى 670 ألف مشترك في عام 2002.

البث عبر الإنترنت

في عام 2007، بدأت شركة نتفليكس خدمة بث الأفلام عبر الإنترنت حيث سمحت لمستأجري الأفلام لديها بمشاهدة ساعة مقابل كل دولار ينفقونه على خدمة تأجير الأقراص الشهرية. ومع دخول منافسة هولو وأبل وغيرها من خدمات البث عبر الإنترنت، ألغت الشركة قيود المشاهدة على البث بجعلها غير محدودة إلا لأصحاب اشتراك 4.99 دولار، حيث سمحت لهم بساعتين مشاهدة شهريًا.

صورة للبث عبر الإنترنت
في 2016 كانت خدمات نتفليكس قد توفرت في كل دول العالم ما عدا الصين وكوريا الشمالية وسوريا (pinterest) 

لكنها لاحقًا وفي عام 2011، تخلصت من كل القيود، وغيرت باقات الاشتراك الشهري على موقعها لتبدأ من 7.99 دولار ووصولًا إلى اشتراك 19.99 دولار شهريًا، على أن يكون الشهر الأول مجاني لتجريب الخدمة.

توسع الشركة عبر الأعوام الماضية

  • في 2007 بدأت خدمة البث في الولايات المتحدة الأميركية.
  • في 2010 توسعت الخدمة لتضم كندا.
  • في 2012 توسعت الخدمة في القارة الأوروبية لتضم المملكة المتحدة وأيرلندا والدنمارك وفنلندا والنرويج والسويد.
  • في 2014 ضمت الخدمة دول أوروبية أخرى مثل النمسا وبلجيكا وفرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ وسويسرا.
  • في 2015 توسعت نتفليكس في أستراليا ونيوزيلندا واليابان وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا.
  • في 2016 أعلنت الشركة بأن خدمتها متوفرة حول العالم، ما عدا الصين وكوريا الشمالية وسوريا وجزيرة القرم. 

عروض بكل اللغات

مع الانتشار الكبير والواسع للشركة في مجال العرض، أرادت أيضًا أن تدخل مجال الإنتاج وامتلاك الحقوق الحصرية للعرض، وهو ما قادها في 2011، لتبدأ في إنتاج مسلسل House of Cards من بطولة الممثل كيفن سبايسي والممثلة روبن رايت، ومن إخراج ديفيد فينشر، والذي حقق نجاحًا على مستوى عالمي. 

وأقامت الشركة العديد من العقود والاتفاقيات مع استديوهات كبيرة لإنتاج مسلسلات خاصة، مثل مسلسلات الأبطال الخارقين من عالم مارفل، وغيرها من المسلسلات التي حققت نجاحًا على المستويين المحلي الأميركي والعالمي.

وأعلنت الشركة مؤخرًا بأنها ستنتج مسلسلات خاصة حول العالم حسب كل دولة وثقافتها، فأعلنت عن إنتاج مسلسلات هندية وأوروبية وأسترالية، وأعلنت كذلك عن بث مسلسلات عربية بدءًا من عام 2018، مثل مسلسل "جِن"، الذي قالت عنه إنه "مغامرة خيالية شبابية" وهو من إخراج ميرجان بوشعيا، وتأليف باسل غندور. ويتولى الإنتاج التنفيذي له الثنائي إيلان وراجيف داساني.

هذا التنوع الثقافي واللغوي لدى نتفليكس، هو ما يضمن لها النجاح والاستمرار، فلم تكتفِ الشركة بعرض الإنتاجات الأميركية، بل اشترت حقوق مسلسلات وأفلام بلغات أوروبية مثل مسلسل Dark وMoney Heist، وبالعربية مثل مسلسل جِن، وغيرها من اللغات. وعرضت أيضًا عروضًا كوميدية لفنانين من حول العالم، ولم يكن آخرهم الفنان عادل كرم، في عرضه الكوميدي في بيروت ليكون صاحب أول محتوى عربي تُقدمه الشركة، وعُرض أول مرة في الأول من آذار/مارس 2018.

أفلام نتفليكس الأصلية

لم تكتفِ نتفلكس بدخولها عالم الشاشة الصغيرة، بل أرادت أيضًا أن تقتحم عالم السينما والشاشة الكبيرة، وهو ما قامت بهِ العام الماضي 2017، حيث أعلنت عن إنتاج عدة أفلام بالتعاون مع كبار الممثلين في هوليوود، مثل براد بيت والذي كان نجم فيلم War Machine، الذي بُثّ على موقع الشبكة مباشرة، وفيلم Bright من بطولة ويل سميث، وفيلم Beast of Nation من بطولة إدريس ألبا.

ووقعت الشبكة سابقًا أيضًا لإنتاج أربعة أفلام مع الممثل الكوميدي آدم ساندلر، وبث أول فيلم له وهو The Ridiculous Six في نهاية عام 2015. واشترت أيضًا فيلم The Irishman من بطولة آل باتشينو وروبرت دي نيرو، بعدما تخلت شركة التوزيع عن الفيلم، بعد أخبار تخلي الممول عنه، وهو ما حدا بنتفلكيس إلى تبني الفيلم من إخراج مارتن سكورسيزي والذي سيعرض في عام 2019. 

 أفلام نتفليكس الأصلية
بيانات المستخدمين هي أهم مورد في عمليات نتفليكس للإنتاج والعرض (Getty)

إذن، استقدمت نتفليكس بعضًا من كبار الممثلين والمخرجين في هوليوود للعمل لديها على مسلسلات وأفلام عالمية. لكن الشبكة نفسها لا زالت تواجه الكثير من المشاكل مع الاستديوهات الكبيرة، ومع جوائز السينما العالمية مثل الأوسكار، حيث تشترط أغلب جوائز السينما أن تعرض الأفلام في قاعات العرض وليس على الإنترنت، وهو ما سيشكل عائقًا أمام الكتاب والمخرجين والممثلين الطموحين للفوز بالجوائز، ويجعلهم يفكرون أكثر من مرة قبل أن يوافقوا للعمل مع نتفليكس.

ولكن وبحسب صحيفة وول ستريت جورنال، فإن نتفليكس عالجت هذه المعضلة في تشرين الأول/أكتوبر 2016، عندما وقّعت عقودًا مع أكبر سلاسل دور العرض وهي سلسلة "ipic entertainment" لتعرض أفلامها في نفس اليوم، بالتوازي مع بثها على الإنترنت. وبهذا تصبح أفلامها مستوفية لشروط الترشح للأوسكار.

كيف تهدد نتفليكس عرش هوليوود؟

انطلق مهرجان كان السينمائي الماضي، دون وجود لأي من أفلام نتفليكس، وسبب هذا أن نتفليكس رفضت توزيع بعض أفلامها على دور العرض، ما جعل إدارة مهرجان كان تشترط على الأفلام التي ستعرض وتشارك في المهرجان، أن تكون معروضة في دور العرض السينمائية التقليدية، فردت شركة نتفليكس بالانسحاب من المهرجان بشكل كامل. وقال مدير المحتوى على نتفليكس، تيد سارندوس، ردًا على الحادثة: "اختار المهرجان أن يحتفي بطريقة التوزيع بدلًا من الفن السينمائي. ونحن متأكدون 100% من أننا ملتزمون بالفن السينمائي".

وحسب شين فينسي، فإن شركة نتفليكس قد أطلقت في أول أربعة أشهر من عام 2018، نفس عدد الأفلام الذي أطلقته أكبر ست استديوهات في هوليوود. وبحلول نهاية العام، فستكون الشركة قد أطلقت 60 فيلمًا. هذا فيما يخص الأفلام، أما فيما يخص المسلسلات، فحصلت مسلسلات نتفليكس على 91 ترشيح لجائزة إيمي في عام 2017.

وعلى الرغم مما حدث في مهرجان كان السينمائي، لا يمكن النظر لنتفليكس على أنها ضحية تآمر أو ما شابه، وعلى خلاف ما قاله تيد سارندوس، فإن الثورة التي أحدثتها نتفليكس ليست ثورة محتوى أو فن سينمائي، وإنما ثورة في طريقة التوزيع بشكل أساسي.

وعندما سئل المخرج الشهير ستيفن سيلبيرغ عن رأيه في خدمات البث عبر الإنترنت مثل نتفليكس وأمازون، قال: "بمجرد ما يُعرض الفيلم على التلفاز، فقد صار فيلمًا تلفزيونيًا وليس سينمائيًا، وعليهِ، ومهما كان قويًا، فقد يُرشح لجائزة إيمي، ولكنه لا يمكن ولا يجب أن يترشح لجوائز الأوسكار"!

وتأتي مثل هذه التعليقات في ضوء الإنجازات الكبيرة التي حققتها خدمات البث عبر الإنترنت في عروض الجوائز في السنوات الأخيرة، حيث حصلت على ثمانية ترشيحات لجوائز الأوسكار، وكان آخرها أربعة ترشيحات لفيلم Mudbound. وفي الوقت الذي وافقت الأوسكار على مثل هذه الأفلام وأعطتها الحق في الترشيح، إلا أن كثيرًا من المخرجين وقفوا إلى صف سبيلبيرغ، فقال كريستوفر نولان إنه لن يعمل أبدًا مع شركات مثل نتفليكس، "لأنها تبتعد بشكل كبير عن دعم الأفلام السينمائية"، على حد تعبيره.

ومع تطور تكنولوجيا تصوير وإنتاج الأفلام في هوليوود، فإن هذا قد يعني زيادة تكلفة إنتاج الأفلام، وعليهِ فإن دور العرض ستحتاج تجهيزات متطورة لعرض الأفلام بالجودة التي صُوّرت بها، وعليهِ فإن هذه التكلفة ستكون في النهاية ثقيلة على كاهل المشاهد الذي سيشتري تذكرة العرض.

وما تفعله شركات مثل نتفليكس هو أنها تقوم بإنتاج أفلامًا عالمية بتكلفة إنتاج منخفضة مقارنة بأفلام هوليوود، وتعرضها للمستخدم بسعر في المتناول، فأسعار خدمات البث عبر الإنترنت تكاد تكون لا شيء مقارنة بأسعار تذاكر الأفلام. ولربما يكون بمقدورك كمستخدم مشاهدة أكثر من 80 فيلمًا شهريًا على موقع نتفليكس مثلًا، بسعر يكاد يكون رمزيًا (11 دولار) مقارنة بسعر تذكرة لمشاهدة فيلم واحد في السينما، والذي يكون في المتوسط 15 دولار. 

يعطي هذا للمستخدم القدرة على الاختيار والتفكير، فهل سيختار أن يشاهد فيلمًا عائليًا مع عائلته، والتي قد تكلفه مع المشروبات والمأكولات مبلغًا ليس بالقليل، أم سيشترك بنيتفلكيس ويعيش نفس التجربة مع عائلته بسعرٍ معقول؟

كيف تهدد نتفليكس عرش هوليوود"The Irishman"مثالا
لم يكن فيلم "The Irishman" لينتج لولا إنقاذ شركة نتفليكس له (Netflix)

وساهم وجود شركات خدمات البث على الإنترنت في تحريك سوق الإنتاج بشكل عام، فأنجت أفلامًا جديدة، وأظهرت منتجين ومخرجين وكتاب جدد، وساعدتهم في تحقيق نجوميتهم، وساعدت أيضًا في إنقاذ الكثير من الأعمال التي لم تكن لترى النور لولاها، مثل فيلم The Irishman، والذي كان من المفترض أن تقوم على توزيعهِ شركة "باراماونت بيكتشرز"، ولكنها تخلت عنه كما ذكرنا، وباتت حقوق الإنتاج والتوزيع الآن ملك لنتفليكس.

لم تصرح نتفليكس ولا المخرج مارتن سكورسيزي بأي شيء بخصوص طريقة العرض، ولكن من المتوقع أن يكون العرض على خدمة البث وفي دور العرض في نفس الوقت، وإذا حصل هذا، فسيكون هذا أول فيلم لسكورسيزي يُعرض بهذه الطريقة.

ويمكن النظر كذلك إلى فيلم Annihilation من إخراج أليكس غارلند ومن بطولة نتالي بورتمان، والذي بعد توفيره في دور العرض بأميركا الشمالية والصين بثلاث أسابيع، كان متوفرًا للمشاهدة على موقع نتفليكس في جميع أنحاء العالم.

ما تفتقده دور العرض

على عكس دور العرض التقليدية التي بإمكان أي أحد دخولها بمجرد دفع ثمن تذكرة السينما، فإن نتفليكس وكعادة المنصات الإلكترونية تعتمد بشكل أساسي على بيانات المُشترك التي يضعها للدخول على الشبكة والاشتراك في باقاتها.

وتستخدم نتفليكس هذه البيانات لإنشاء خوارزميات تعرض توصيات لأفلام ومسلسلات لكل مستخدم استنادًا على بياناته. تسهل هذه التوصيات على المشترك المشاهدة المستمرة دون حاجة للبحث عن العرض الذي قد يستهويه. وفي المقابل، فإن تضمن لنتفليكس بقاء المشترك لأطول فترة ممكنة.

كذلك فإن توفر بيانات المستخدمين والمشتركين لنتفليكس، يضمن لها انتقاءً أقرب للمشاهد، سواءً لموضوعات عروضها أو أبطالها من الممثلين أو الحبكات الدرامية في المسلسلات والأفلام التي تنتجها.

ففي حين تفتقد دور العرض السينمائية وصناع الأفلام هذا الحدس التكنولوجي المستند إلى تفاصيل بيانات الجمهور، فإن شبكة نتفليكس تعرف بالفعل ما يحبه الجمهور وما يفضلونه، وتعرضه لهم. 

توفر بيانات المستخدمين والمشتركين لنتفليكس، يضمن لها انتقاءً أقرب للمشاهد في موضوعات عروضها وأبطالها من الممثلين وحبكاتها الدرامية

وفي الوقت الذي يستمر بعض التقليديين في هوليوود بمحاربة نموذج نتفليكس في العرض، مثل ديزني التي أعلنت أنها ستسحب كل إنتاجاتها من على موقع نتفليكس؛ هناك في المقابل الكثير من المؤيدين والراغبين في نشر هذا النموذج والمساهمة فيه والصعود على موجته، فكما قال "جي جي أبرامز"، مخرج فيلم The Cloverfield Paradox الذي عُرض أول مرة على موقع نتفليكس، قبل أشهر؛ فإن الناس "يرغبون في مشاهدة الأفلام، ولكن لن يكون بمقدورهم دائمًا الذهاب إلى دور السينما".