28-نوفمبر-2018

محمود اشونكولوف/ أوزبكستان

على حجر جنوب سقارة- مصر، وكما هو موثق أيضًا في بردية إيبوير، المحفوظة في المتحف الوطني الهولندي للآثار، ورد ذِكر أول ثورة للجياع في التاريخ، كان ذلك ضد الملك بيبي الثاني، فرعون من الأسرة السادسة وآخر حكام المملكة القديمة، 2278–2247 ق.م.

جاءت الثورة الرقمية لتسم حياتنا بطباعها النزقة، وليكون الإنترنت بديلًا عن الإزميل والحبر وأوراق البردي

لطالما ارتبطت الثورات بالرغيف، الرغيف المدمى، كالثورة الفرنسية، وثورات الخبز في العالم العربي، تونس والأردن ومصر والجزائر وسوريا. كما قامت ثورات عبر تاريخنا الطويل من أجل الحريات، وقد سجل التاريخ المكتوب أول ثورة ارتبطت بالوعي لنيل الحرية 135–132 ق.م قادها أيونوس الفينيقي (يونس السوري) الذي ثار على روما، وسجلها المؤرخون باسم ثورة العبيد الأولى، وقد هُمشت، بينما سُلطت الأضواء على ثورة العبيد الثالثة الشهيرة 73–71 ق.م، التي قادها سبارتكوس، ثورات العبيد الثلاث كانت ضد الجمهورية الرومانية، التي تحولت بعد هذا الحدث إلى الإمبراطورية الرومانية.

اقرأ/ي أيضًا: الشتامون افتراضيًا

هذه الانتفاضات، مثلًا لا حصرًا، رسخت مفهوم الثورة والتمرد طلبًا لتغيير واقع ما، لنيل الحقوق الممنوعة، لاسترداد الكرامة، أو لغلاء المعيشة ورفع القيمة الشرائية، وكانت دوافعها الحق المسلوب. ولأن ذاكرتها نُقشت على حجر التاريخ، فقد نجت من رماد الحروب وويلات الكوارث، التي ابتلعت أحداثًا كثيرة لا نعرف حقيقتها، لكن أخبارها وصلت إلى زمننا عبر تناقل الرواة لقصصها، من جيل إلى جيل.

الآن رُفع عن أكتافنا ثقل النحت على الصخر، وجدران الكهوف والمعابد، لم يعد زمننا يحتمل عبء الرقوق والمخطوطات، فقد جاءت الثورة الرقمية لتسم حياتنا بطباعها النزقة، وليكون الإنترنت بديلًا عن الإزميل والحبر وأوراق البردي. كان من عاداتنا أن نقرأ الصحف كل صباح، نتلمس الخبر نشمه ونسمعه. هذه العادة ذهبت إلى غير رجعة، فحين فتح الإنترنت أبواب منازلنا ونوافذها على الملأ، نشرنا تفاصيل حياتنا الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، مطابخنا، غرف معيشتنا، موائدنا، تسريحات الشعر الجديدة، ملابسنا الداخلية، أحلامنا، هذياناتنا، وأسرارنا التي يحتفظ بها أصحاب هذه المواقع، دون إذننا.

وحين نصادف من يقرأ الجريدة، نقف أمامه كأنه المعجزة.

الثورة الرقمية اختصرت حياتنا ببرامجها الذكية إلى مربع بلوري، حوّلتنا إلى جزء من عتاد الحوسبة، دون أن ندري.

نتعارف ونصادق، نشتري ونبيع، نكتب ونقرأ، نعشق، نتزوج ونمارس الحب الرقمي. صديقتي "المتحفظة" أرسلت لي وهي تكاد تطير من الفرح، خبر زواجها من شاب تعرفت عليه عبر الإنترنت، والمأذون عقد قرانهما على التابلت.

هي تقيم في مصر، وهو يقيم في مونتريال، أما المأذون فقد آثرت عروستنا الحلوة، أن يكون ما زال مقيمًا في سوريا.

احتفلنا بها "بزفة طنانة رنانة" على السكايب، وشربنا نخبها، رقصنا كل منا على أرضه، وانتهت الحفلة.

قد يكون العالم اعتاد خبرًا كهذا، وعادة نقابله بابتسامة باردة، ونمضي بعيدًا إلى الغرق في محاولات غالبًا فاشلة للتأقلم مع الايقاع الرقمي، كأننا نهرب من السؤال الفخ، ماذا بعد؟

لا أنكر بأن هذا "الاختراع" سمح للشرق بأن يتزوج الغرب، والشمال بالجنوب، وبأن أشد الأمور سرية باتت تنتشر غالبًا قبل حدوثها، وبأننا تغلبنا على تسونامي التهجير، الذي رمى بنا إلى علب المنافي الباردة، بامتلاك مهارات رفيعة المستوى في التواصل.

الثورة الرقمية اختصرت حياتنا ببرامجها الذكية إلى مربع بلوري، حوّلتنا إلى جزء من عتاد الحوسبة، دون أن ندري

صار الواحد/ة منا يلتقط الحالة الشعورية للمرسل، ودرجة حرارة الشوق والتفاعل، مزاج الابتسامة (باردة، دافئة، مواربة..). ومن الحق أيضًا أن نعترف بأن العالم الرقمي لمّ شمل الشتات، وبادر ليكون جسرًا يجمعنا على مائدته كل يوم، لتتمحور علاقاتنا داخل أضلاع المربعات الكريستالية المضيئة تلك.

اقرأ/ي أيضًا: رسالة إلى صديقي الفيسبوكي

إذا كنا قد تعاملنا مع الحب الرقمي كواقع محكوم بهول المسافات و"قلة الحيلة"، فماذا عن الموت الرقمي؟

العالم الرقمي ثقب أسود يبتلعنا، ويحولنا إلى عبيد.

 

اقرأ/ي أيضًا:​

ما هي إيجابيات وسلبيات مواقع التواصل الاجتماعي؟

قصة حب افتراضية