22-نوفمبر-2015

إيد سامرنسنت

لم تفهم يومًا سبب تعلقها به. ذلك الرسام الذي لمحت صورته مرة، بابتسامة ساحرة، علقت في رأسها وأقنعتها بأنه ساحر أيضًا. لم يكن يومًا لطيفًا معها. ولم تستطع أن تفهم يومًا لم لا يكف عن الحديث إليها. لمَ يعود ويحدثها، يضحكان يسخران من العالم يتفقان أو يتعارضان، يتشارعان، يتوجّها على عرش العالم ثم يعود ويرمي بها إلى ما دون الأرض. يهينها. ترد بصمتها. لا تفعل شيئًا.

لطالما كانت مقتنعة بأن وجوده الافتراضي في حياتها، حتى وإن كان قاسيًا أفضل من غيابه. فهي مغرمة به، ولا تبالي بقسوته. تعشق تفاصيله. لطالما تخيّلت رائحته وملمس يديه. لطالما ابتسمت كلّما تذكّرته. هو لم يفهم يومًا هذا الغرام ولم يعره اهتمامًا. لطالما قارن مشاعرها بمشاعره، وخلص إلى أنها مجرد تسلية ولا أساس لكل هذه العواطف. 

حاولت كثيرًا أن تنساه. أن تتجاهله إذا ما حادثها، لم تستطع. تعود وتحن. اقتنعت بأن وجوده لم يعد يبعث إلا الألم. هو الرسام المنغلق على ذاته، الغير عابئ بشيء أو أحد سواه. لكن كل هذا كان مسوّغًا، فلم تشعر بأن لا مبالاته هو أمر موجه ضدها حصرًا. أقنعت نفسها بأنه هكذا مع العالم أجمعين. كانت تكتفي بمحادثات ثابتة معه من وقت لآخر وكانت في انتظار دائم لكتاباته إليها، هي التي تكره الانتظار. لطالما جلست لساعات تتأمل هاتفها بانتظار لو حرف منه. تشتاقه، تشتاق رسائله إليها، تعود وتبحث عنه في صوره وفي رسوماته. تحاول أن تفهمه. تحاول أن تنفذ إلى عالمه الذي ظل شهورًا موصدًا بوجهها. تأمّل ملامحه فقط، كان يبعث فيها شعورًا جميلًا، يشعرها بأنها ليست وحيدة وبأنها في كنف حبيب.

حلمت كثيرًا بأن يأتي يومًا ما إلى باب بيتها، ليصحبها إلى أي مكان، إلى السينما، إلى "كزدورة"، إلى مقهى. ويحضر معه ورودًا تليق بجميلته، "جميلته" كما كان يدعوها في لحظات رضا. لطالما تخيلت نفسها في مرسمه، في منزله، في غرفته في جميع عوالمه. حلمت بأن تعدّ له القهوة، وتخيّلته يخبرها بأنها أطيب قهوة يذقها في حياته. حلمت أن يقرأ لها كل ليلة حتى تغفو بين يديه. رأته يمازحها، يدلّلها ويمرحان معًا بطفولة. رأت نفسها بين ذراعيه وهو يخط رسوماته بريشته. كم أرادت أن تكون إلهامه الأوحد. حلمت بكل هذه التفاصيل. أرادت أن تكون أحلامها حقيقة. تخيلته عاشقًا شغوفًا، لا يغفو إلّا على سماع صوتها. يجافيه النوم إذا لم تكلمه. يهزل بغيابها ويتألم إذا تألمت.

حلمت بكل ما يمكن أن يعيشه عاشقَين. حلمت بأنها بين ذراعيه يتأملان المغيب. كانت تتمنّى أن يباغتها في رياضتها الصباحية على الشاطئ ويمشيان معًا. حلمت بأن تحلم وأن يلبّي هو الحلم. كان هو الحبيب والشريك والصديق الذي أرادت مشاركته كل شيء، جُلّ ما أرادته بعض حبٍ، بعض ذكريات جميلة تعتاش عليها، بعد أن يرحل. تتجرأ مرات وتوقف سيل أحلامها/أوهامها وتقول لنفسها بأنها لم تره في حياتها. فهي لا تعرف رائحته، لا تعرف ملمس يديه ولا حتّى نبرة صوته. كيف لها أن تحبه كل هذا الحب، وأن تغار عليه وتبحث عنه في المجلات وفي المواقع الإلكترونية، تبحث عنه، عن صوره، عن رسوماته وعن أصدقائه. تريد أن تعرف كيف هو مع أصدقائه ومع عائلته. هل هو جلف معهم كما هو معها؟! ترى هل لديه حبيبة؟! وإن يكن، فهي تقنع نفسها، بأنها كائنًا من تكون هذه الحبيبة لن تحبه كما أحبته هي. تعود وتفكّر لكن على الأرجح لديه حبيبة. تتألم. يثقل قلبها. وتزوغ عينيها قبل أن تدمعا. تفكر أي عدالة تسمح لأي امرأة كانت بأن تشاركها حبيبها، ما تمضي ليلها نهارها بتخيله. هو لها هي فقط. هو حبيبها. وهي لا تحب بسهولة لطالما انتظرت منذ زمن أن يأتي أحد "يسحرها" ويرمي بكل منطق.

تفكّر بينها وبين نفسها، لا هذا غير ممكن فهو أناني جدًا ليحبّ أحدًا. هو بلا مشاعر. فنان منغلق على نفسه وعلى لوحاته. لا يرى خارجهما أحد. ولن يقبل أحد بهذا الأناني. لن يحتمل أحد قسوته. لن تحتمله أنثى سواها. هي وحدها القادرة على احتوائه، هي مستعدة لكل شيء، على أن تبقى قربَه.

غاب عنها. لم يعد يحادثها. لم تعد تصلها رسائله. جربت كثيرًا أن تتواصل معه، بلا فائدة. اختفى. هكذا بكل بساطة اختفى ونسي كل شيء. اكتأبت. اعتزلت العالم. تصومعت في غرفتها بين كتبها. كل شيء انتهى، تفكر. لم تعد تريد شيئا. تريد لهذا الوقت أن ينقضي. علّ عذاباتها تنقضي أيضًا. أمضت شهورًا لا تكلم أحدًا، أغلقت هاتفها، ابتعدت عن عائلتها وأصدقائها. ليس هذا هو العالم الذي تريده. هي تريده هو فقط. هو عالمها، وكل شيء دونه بلا معنى.

مع الوقت، جربت أن تسترجع عافيتها وأن تفيق من صدمتها. أقنعت نفسها، بمرور الوقت، بأن ما كان هو وهم. عاد إليها الصحو. استعادت علاقتها بعالمها المحيط شيئًا فشيئًا. عادت إلى الشاطئ، لنزهاتها الصباحية. عادت تخرج وتتسوق. اشترت ثياباً كثيرة وأحذية. فهي في مرحلة تجديدية. على كل شيء أن يكون جديدًا. عادت الحياة إليها.

تصلها رسالة نصية منه: "معرض رسوماتي سيكون الأسبوع القادم، ويهمني كثيرًا حضورك"، لا تسائله عن اختفائه، لا تعاتبه، لا تخبره كم أوجعها غيابه. لا تقل شيئا. اكتفت بكلمتين: مبروك سأحاول. تؤنب نفسها: "لم قلت سأحاول، كان عليّ أن أتجاهله، أو أهينه...لا لا أستطيع إهانته، سأندم أكيد، بل كان علي أن أسأله لم الآن ولم يريد حضوري وأين كان طوال هذا الوقت". أفكار تعبث برأسها على مدى أيام، حتّى تقنع نفسها بأن الطريقة الوحيدة لتنساه هي أن تلقاه. فهو وهْمٌ سيتبدد عند لقائه. تحضّر نفسها، تلبس فستانًا بلونه المفضل، وتنتعل حذاءها العالي، فهو لطالما أخبرها بأن هذا هو "الستايل" الذي يحبه. تفكر، بأنّها لا تريد إغواءه، هي فقط تريد معاقبته لتجاهلها، عليه أن يتحسر لم ضاع منه. تفكّر "لا يهمني، لم أعد أريده بعد الآن". شعرَت بغبطة بريئة، لانتصار لم تتضح معالمه بعد.

دخلت إلى معرض الرسم، ألقت نظرة عابرة على اللوحات، جميلة طبعًا. لكن، هذا ليس سبب قدومها. تبحث عنه بين الحضور. يقع نظرها على ابتسامته الساحرة. فهو كما تخيلته تمامًا بريئ ووديع، ساحر كما في جميع صوره. يتكلم إلى زائريه، يلمحها. يشيح بنظره بين الحين والآخر عن محدثيه، ليحطّ نظرة عابرة عليها. تقترب منه برباطة جأش، تطبع قبلة على خده ويبادلها إيّاها. يتكاثر الزائرون. تحسّ بأنه ذاب بين الحضور، ولم يعد لحضورها معنىً. 
تعود وتتأمل اللوحات، علها تجد نفسها في أيٍ منها. تحزن. ليس لطيفها وجود في أي من رسوماته. فهي ليست موجودة، وكأنها لم تكن. تقرر أن تنسحب وتغادر، فقد حصلت على ما تريده، ذكرى رائحته وملمس جلده. لا تذكر ما قالت وماذا فعلت وماذا أخبرها. عادت إلى سيارتها وبكت، بكت كثيرًا. أدركت كم تحبّه. تذكرت برودة قبلته وبكت. انتبهت بأن مشاعرها تجاهه، لم تكن يومًا مجرد افتراض. كانت أكثر من حقيقة. بكت لأن لا مبالاته كانت أقسى ممّ تخيلت يومًا.