07-أبريل-2022
مدينة تشينغداو الصينية في الضباب ليلًا (Getty)

مدينة تشينغداو الصينية في الضباب ليلًا (Getty)

المنام حياة عابرة. تخصك ولا تخصك. تخصك بمعنى أن أحداثها تؤثر في لحظتك. تختبر خلالها انفعالات متعددة: الخوف، الإثارة، العياء، التعب. لكن هذا كله، ما خلا حالات محددة، يختفي من ذاكرتك في النهار، وبسبب اختفائه من الذاكرة، لا ينجح في أن يضيف لحياتك شيئًا جديدًا. لن تتعلم من الحلم شيئًا، ولن يصنع منك الحلم أحدًا. المشاعر تكون فاعلة ومؤثرة على عقولنا وأجسامنا حين نختبرها في اليقظة والانتباه التام. وهذا على الأرجح لأن جسمك لا يختبر ردود فعله على هذه المشاعر. أنت نائم ومستكين، والأشياء التي تجري حولك تجعلك مجرد مراقب، أقل تفاعلًا من شخص يشاهد فيلمًا سينمائيًا.

إن ما نختبره في اليقظة والانتباه هو ما يشكلنا على ما نحن عليه وعلى ما سنصيره في المستقبل

 

أن ينجو جندي من انفجار قذيفة بالقرب منه، يعني أن جسمه اختبر الخوف الشديد والقرب من الموت، وتفاعل مع الحدث على النحو الذي يجيده. أما أن يتعرض لإطلاق نار في الحلم، فهذا أمر لا يتدخل فيه جسمك على أي وجه.

في خلاصة هذا التعريف يمكن القول إن ما نختبره في اليقظة والانتباه هو ما يشكلنا على ما نحن عليه وعلى ما سنصيره في المستقبل.

في المجتمعات الحديثة، ثمة نوم كثير. تسامر أشخاصًا في القارات الخمس، لكنك بعد وقت قصير تنسى الحادثة أصلًا. لا تتذكر وجوها ولا حوارًا، ولا أي أمر آخر، تشاهد مقطع فيديو، وقد تضحك ملء رئتيك، لكنك ما أن تقفل الهاتف أو الحاسوب حتى تترك الحدث خلفك تمامًا. أيضا ليس ثمة ما يترك أثرًا في هذا الوقت الذي كنت فيه منتبها وساهيا في اللحظة نفسها. معظم ما يجري على الشبكة العنكبوتية يشبه المنام، وأنت فيها نسخة مختلفة عن نفسك، أو لنقل نسختك التي تخفيها عن الآخرين. على هذه الشبكة بوسعك الادعاء بما تشاء، وبوسعك التفاعل مع ما تحفل به من مشاهد، لكنك أبدًا لا تستطيع أن تقرر ما سوف تشاهده وتتفاعل معه. وغالبًا ما تقرر التفاعل مع ما يجري على الإنترنت على النحو نفسه الذي تقرر فيه أن الوقت تأخر ويجدر بك الاستلقاء في سريرك.

ليست الإنترنت فريدة في بابها هذا. وعلى الأرجح هي تكمل ما بدأته السينما والتلفزيون وعروض الأزياء من قبل، لكن ما ثبتته حقيقة وواقعًا، بخلاف السينما والتلفزيون من قبل، يتصل بشكل مباشر بقدرتها على خلخلة نظامك الزمني. في كل لحظة من لحظات اليوم ثمة من يعرض مقالب هو وزوجته على تيك توك، وفي كل لحظة من لحظات اليوم ثمة صور مثيرة وجميلة لجنيفر أنستون بلباس البحر على الشاطئ. الانفعالات التي نختبرها مع انتشار استخدام الإنترنت تشبه إلى حد بعيد خزانة بإدراج لا تحصى، وأنت في هذه اللحظة ستختار، مدفوعًا بضجرك أو وحدتك أو تعبك ما ترغب في التفاعل معه.

ليست الإنترنت فريدة في بابها. وعلى الأرجح هي تكمل ما بدأته السينما والتلفزيون وعروض الأزياء من قبل، لكن ما ثبتته حقيقة وواقعًا، بخلاف السينما والتلفزيون من قبل، يتصل بشكل مباشر بقدرتها على خلخلة نظامك الزمني

في زمن السينما والتلفزيون وعروض الأزياء، كان المرء يستطيع أن يكون متأكدًا أن مارلون براندو هو مثال الجمال الذكوري وأن بريجيت باردو مثاله الأنثوي، لكن جمال باردو الأخاذ لا يمنع المرء من أن يحب زميلته في العمل ويقرر العيش معها. على هذا كان في وسع مداركنا المحدودة أن تصنع لباردو وبراندو صفتين متناقضتين. فهما يأتيان من المنام، بمعنى أنهما لا يؤثران على قراراتك في الزواج والطلاق والمساكنة. لكنهما أيضًا يأتيان من حقيقة بمعنى أنك ستحاول تقليد نظرة براندو حين يغضب، وقد تنهك جسمك بالتمارين الرياضية لتحصل على قوام شبيه بقوامه. إنهما حقيقيان وخياليان في الوقت نفسه. والسينما بهذا المعنى، خصوصًا السينما التي انتقلت عروضها إلى الأجهزة المنزلية، تتحدد بوصفها ما ترغب في أن تكونه، وما تعجز أن تكونه في الوقت نفسه. بل إن المرء وهو يشاهد مونيكا بيلوتشي تمر في شارع من شوارع مدينة إيطالية يعرف سلفًا أن العالم يعيش وينفعل بعيدًا عنه، وإنه في حقيقة الأمر ليس سوى خاسر كبير، يجدر به أن يبقى في الظل إلى الأبد.

أحسب أن هذا الشعور هو ما اشتغلت شبكة الإنترنت على تطويره إلى الحد الأقصى، العارضة نفسها التي تعرض جسمها على الإنترنت، حين يتسنى لها أن تشاهد صورتها لن تصدق أنها هي نفسها. هذا العالم الذي لا تقلقه الروائح المنبعثة من الأجساد التي لم تغتسل، ولا يهده تعب يوم حافل بالقراءة والكتابة، أو بالعمل اليدوي، ولا ينام مرهقًا أو قلقًا مما يخبئه له الغد. في حين أن هؤلاء الذين يظهرون على الشبكة خفافًا على نحو لا يحتمل، لا يستطيعون أن يكونوا بشرًا على أي وجه من الوجوه. إنهم نتاج منامات، والمنامات كما نعرف لا تستطيع أن تقيم في مملكة الحضور. هي مجرد عالم مشعث وغير قابل للترتيب، ولأنه مستحيل على الترتيب والتنميط يصبح إدراكه مستحيلًا، وسرعان ما نطرده إلى الخلف ونبدأ يومنا من حيث انتهى سابقه. أما صورة بريجيت باردو ومونيكا بيلوتشي، فستصبحان ملكًا عامًا، ولن تنجحا أبدًا في أن تدفعا مشاهدهما للقتال من أجلهما، هذا مع أنهما تستحقان.