17-يوليو-2019

ثلة من الجنجويد في استعراض عسكري (أ.ف.ب)

التراصوت - فريق التحرير

حين عبر السودانيون في الحادي عشر من نيسان/أبريل الماضي الجسر الواصل بين مدينة أم درمان والخرطوم مندفعين بروح ما ظنوه انتصارًا لثورتهم الظافرة، بدعم ومساندة القوات المسلحة، لم يدر بخلدهم ربما أن ثمة بنادق سوف تخترق صدورهم في ذات المكان بعد سقوط البشير من القوات التي حمتهم في الأول، وهو ما حدث بالفعل في اليوم الأخير من الشهر الماضي، بعدها صوبت أصابع الاتهام نحو قوات (الدعم السريع) التي سارعت بالنفي، تحت وطأة السخط الشعبي.  لكنها وبالرغم من الصورة التي رسمت لها، وعززتها نبرة العنف في الشارع السوداني، كانت قوات "الدعم السريع" أفضل قرار على الإطلاق اتخذه الرئيس المخلوع عمر البشير طوال حياته، كما تباهى في أحد أشهر خطاباته الجماهيرية.

الجنجويد مليشيا فاعلة ومشهود لجرائمها في السودان وجنوبه، ومعنى الاصطلاح الجن الذي يعتلي صهوة جواد

يرى محمد دفع الله، وهو شاب سوداني ثائر، إن قراءة الحروف المكتوبة في لوحة العربة المدججة بالسلاح (ق د س) كفيلة بجعله يعيش حالة من عدم الارتياح والخوف، ويتساءل حول مصير ثورة جيله الممهورة بالدماء. يبدو دفع الله وكأنه يقرأ أحد شعارات الثورة التي احتشدت بها جداريات المنازل السودانية (يسقط المرتزقة) والتي يشرحها كاتبها بصورة لعربة تحمل (الدعامة) حسب التوصيف المحلي للمجموعات العسكرية التي تدين بالولاء لنائب رئيس المجلس العسكري محمد حمدان حميدتي.

اقرأ/ي أيضًا: حميدتي.. البدوي الذي لا نحبه!

وكان البشير قد تباهى بتلك القوة التي شاركت في الإطاحة به، قائلاً "من ﺃﺣﺐ ﺍﻟﻘﺮﺍﺭﺍﺕ ﻭ أﻓﻀﻠﻬﺎ ﻟﺪي ﻫﻮ ﻗﺮﺍﺭ ﺗﻜﻮﻳﻦ ﻗﻮﺍﺕ ﺍﻟﺪﻋﻢ ﺍﻟﺴﺮﻳﻊ". الذين وصفهم، في العام 2017 بأنهم اﻟﺬﺭﺍﻉ ﺍﻟﻘﻮﻱ ﻟﻠﻘﻮﺍﺕ ﺍﻟﻤﺴﻠﺤﺔ.

الجنجويد والأرض

ثمة عبارة مشهور للروائي السوداني عبد العزيز بركة ساكن ابتدر بها إحدى أهم مخطوطاته الأدبية، تقول العبارة" أهون لجمل أن يلج من ثقب إبرة ما من أن يدخل جنجويدي ملكوت الله"، في إشارة لما صورته المخيلة الشعبية من أهوال الحرب في دارفور، ودور قوات الدعم السريع في تكوينها الأول حينما كانت تعرف بالجنجويد، أي الجن القاتل الذي يعتلي الجياد. ووفقاً لإحصاءات غير رسمية فإن قوات الدعم السريع يبلغ تعدادها نحو 50 ألفًا، ينتشرون في الحدود، ومناطق دارفور، واليمن ضمن القوات التي تفاتل هنالك تحت راية التحالف السعودي. لكن المثير في الأمر صدور قرار نهار الثلاثاء بدمج "هيئة العمليات" بجهاز الأمن والمخابرات السوداني في قوات "الدعم السريع" ويبلغ تعداد أفراد هيئة العمليات 12 ألف مقاتل .

ونقلت صحيفة (باج نيوز) إن قرارًا سيصدر خلال أيام بنقل تبعية هيئة العمليات بجهاز الأمن والمخابرات السوداني إلى قوات الدعم السريع، حيث تتكون هيئة العمليات من 12 ألف مقاتل، وتنتشر في مواقع مختلفة في الخرطوم وعدد من الولايات الأخرى، وشاركت هذه القوات من قبل في عمليات ومعارك لمحاربة التمرد في ولايات السودان الحدودية، إلا أن بعضها مارس قتلاً وعنفاً خلال الاحتجاجات الأخيرة على المتظاهرين، مما أجج الشارع على جهاز الأمن وزادت المطالبات بحله بسببها، لكن دمجها في قوات الدعم السريع، سوف يضاعف القوة الضاربة لجيش حميدتي، وربما يجعله قائداً لقوة عسكرية متعددة المهام .

حميدتي والبرهان

ربطت حركات مسلحة سودانية  قوات الدعم السريع يكتمل تعريفها بالتابعة للجيش السوداني بانها امتداد لعصابات (الجنجويد) وهو اتهام ترفضه قياداتها، وترفضه أيضًا قيادة المجلس العسكري الانتقالي، حيث وصفها الفريق عبد الفتاح البرهان في خطابه التلفزيوني قبل الأخير بأنها "ولدت من رحم القوات المسلحة" فيما يقول التسلسل التاريخي لتكوينها أنها كانت جزءاً من مكونات جهاز الأمن والمخابرات. وقال البرهان في حوار تلفزيوني أن الصداقة العميقة تجمع بينه وحميدتي قبل أن يصبح رئيساً للمجلس العسكري الانتقالي، ولهذه الصداقة صلة باختياره إلى جنبه، ليشد من عضده كما يبدو .

شهادة المهدي

كان البرلمان السوداني أجاز في كانون الثاني/يناير 2017 قانوناً جعل قوات الدعم السريع تابعة للجيش السوداني، وفي العام 2014 تم اقتياد الإمام الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي وآخر رئيس وزراء سوداني منتخب، إلى السجن، وذلك بسبب انتقاده لقوات حميدتي واتهامها بارتكاب جرائم حرب بإقليم دارفور، قبل أن يعود المهدي نفسه مؤخراً ليصف ما قام به حميدتي وقواته في مشهد خذلان البشير بأنه موقف تاريخي، ومضى المهدي أكثر من ذلك بالدعوة لتجنب الاحتكاك بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني، داعيًا حميدتي، إلى دمج قوات الدعم السريع التي يقودها في الجيش لتعزيز الوحدة في صفوف القوات المسلحة، وأضاف المهدي: "إذا كان حميدتي يتطلع لدور قيادي فسيكون مقبولاً إذا أصبح مواطنا مدنيًا، وإذا اتجه حينذاك إما لتشكيل حزب خاص به أو الانضمام لأي حزب يعتقد أنه أقرب إلى أفكاره" لكن قائد الدعم السريع رفض الكشف عن نيته الترشح للرئاسة في الانتخابات المقبلة، إلا أن حضوره السياسي وتغلغله في الأوساط الشعبية من خلال تدفق الدعم المالي من قبله، بات لافتاً في الأشهر الأخيرة، وربما يحظى في حال قرر خوض سباق الرئاسة السودانية، بدعم حليفته، المملكة العربية السعودية.

طموحات حميدتي

هنا أيضًا لا يبدو السؤال عن ما مضى بقدر ما يمضي  نحو التساؤل حول مستقبل السودان نفسه عقب الثورة! والكيفية التي يمكن من خلالها تجاوز معضلة الدعم السريع؟ المعضلة التي يربطها مراقبون بأنها تتجاوز القوات لتضع استفهاماتها حول قائدها الفريق حميدتي نفسه.  فالرجل الذي ينحدر من المكونات العربية في إقليم دارفور وجد حظوظه السياسية تتفاقم بصورة مذهلة، حتى أنه اعتلى موقع الرجل الثاني في البلاد على نحوٍ مفاجئ، مما يمهد الطريق ربما للقفز على منصب الرجل الأول في حكومة ما بعد الثورة المنتخبة، مستفيداً مما يسميه البعض حالة السيولة العامة وعدم الاستقرار الذي يجعل من القوة العسكرية، في بلد غير مستقر مثل السودان العامل الأكثر ترجيحًا في لعبة الصعود إلى سُدة القيادة، سيما وأن حميدتي يمتلك جيشًا وموارد مالية "مستقلة"، حيث يستأثر بذهب جبل عامر، إلى جانب دعم الاتحاد الأوروبي لقواته، مقابل قيامها بمهمة مكافحة الاتجار بالبشر في الحدود السودانية، عطفًا على مشاركة تلك القوات بأعداد كبيرة في حرب اليمن، تقدر بحوالي ثلاثين ألف مقاتل، وفقاُ لقائدها حميدتي، الذي قال في خطاب جماهيري الشهر الماضي "نقاتل مع الإمارات والسعودية، وقواتنا من أكبر القوات المشاركة في التحالف، حيث يبلغ قوامها ثلاثين ألف جندي" وهى المرة الأولى التي يفصح فيها الرجل عن حجم قواته في اليمن، والتي أصبح له دور متعاظم على الأرض، تلاحقها أيضًا اتهامات بالانتهاكات، وتجنيد الأطفال.

أدوار متعددة

حسماً في الصعود الى أعلى طموحات زاد منها حالة الإستقلال المالي الذي ينعم به جيش حميدتي من خلال سيطرته على مناجم الذهب في دارفور، وعلى العائد المادي من مشاركة جنوده في حرب اليمن مدفوعة الثمن. وبالطبع فإنه لا يمكن تجاوز الدعم السياسي الذي يجده من حلفاء الحرب في اليمن "الإمارات والسعودية" باعتبار أن أي تحولات في المشهد السياسي في السودان من شأنها التأثير على مجريات الصراع هناك، خصوصاً بعد خطوة الإمارات سحب قواتها من حرب اليمن، إذ أن تعويض النقص غالباً سوف يكون من قوات الدعم السريع، المتأهبة لأي دور يوكل لها داخل وخارج السودان، بشكل منفرد، أو ضمن منظومة القوات السودانية .

اقرأ/ي أيضًا: رفض التخريب السعودي الإماراتي في طليعة شعارات الحراك السوداني

شرعية حشد الجماهير

في الشارع السوداني  يتمدد  رفض الثوار  لقوات الدعم السريع ولقائدها حميدتي وهي صورة تبدو مخالفة لما كان في بداية إنطلاق الاعتصام حيث ظهرت جلياً بوادر النهاية لشهر العسل بين الطرفين. فموقف الرجل الرافض لمواجهة الجماهير الثائرة عندما طلب منه البشير ذلك، جعلت البعض يعتبره أحد داعمي الثورة قبل أن تتخذ الأوضاع صورة مغايرة، تراكم فوقها صدى السخط الشعبي، إلى درجة أن قواته باتت هي المهدد الرئيس لتطلعات الشعب في تحقيق مطالب (الحرية والسلام والعدالة)  كما يردد البعض، وعزز من هذا الأمر حراكه الخارجي من أجل الحصول على الدعم الإقليمي، ومن أجل شرعية ظن أن تحصيلها يتم من خلال حشد الجماهير بواسطة قيادات النظام المخلوع.

يقدم حميدتي خدمات الارتزاق عبر عصاباته بالجملة، مرة للاتحاد الأوروبي ضد الهجرة غير النظامية ومرات للتحالف السعودي الإماراتي وجرائم حربه

يقول طارق عثمان الصحفي السوداني أن عملية تحصيل الاستقرار والسلام في السودان والتحول المدني "لا يمكن الوصول إليها، في ظل وجود ميليشيات تملك السيطرة على زمام الأمور وأنه لا خيار غير إيجاد صيغة للتخلص من هذه القوات وتقليل تاثيراتها السلبية" وحول ادعاء نائب رئيس المجلس العسكري حميدتي بأن قواته مخترقة من قبل مندسين وأجهزة مخابرات ومزروعين يعملون على تشويه صورتها، كتب طارق تدوينة على صفحته بالفيسبوك، متسائلاً : كيف لقائد فشل في تأمين قواته من الإختراق ولم يستطع السيطرة على تلك القوات بحيث يحرك أولئك المندسون آلاف الجنود وبآلاياتهم ودون علم قيادتهم للدخول في معركة داخل العاصمة لساعات؟ وأن تعيث تلك القوات فسادا لثلاثة أيام دون تعليمات من قيادتها بل هي لا تعلم من أصدر التعليمات؟ مبدياً استغرابه، حول "قدرة قائد بتلك الصفات المتواضعة أن يحفظ أمن بلد حدادي مدادي وسط شد داخلي وتجاذبات خارجية" على حد وصف طارق.

جاذبية الالتحاق بالدعم

لا يمكن لمن امتهن سلوك انتهاك القانون أن يعيش تحت سلطاته، هكذا يرد البعض علي التصريحات المتتالية لنائب رئيس المجلس العسكري محمد حمدان حميدتي حول ضرورة سيادة حكم القانون، الجملة التي ظل يكررها في غالب خطاباته وتصريحاته الأخيرة، ويؤكدون على عدم موافقته على خيار حل هذه القوات  تحت أي ظرف، مثلها، والموقف العام للمجلس العسكري فيما يتعلق بالاستمرار في التحالف السعودي الذي يقاتل في اليمن. لكن الناطق الرسمي باسم الدعم السريع العميد جمال جمعة حاول منح الالتحاق بقواته جاذبية وإغراء، مشيراً إلى أن أحد الدوافع التي تجعل الكثيرين يتقدمون للالتحاق بهذه القوات هو تحسين أوضاعهم المادية، نافياً تجنيدهم أطفالاً للقتال باليمن والسعودية، وقال جمعة في حوار صحفي إن الدعم السريع تعرض للطعن من الخلف في حادثة الاعتداء على ميدان الاعتصام .

تمظهرات التهميش

لكن الأمر يختلف لدى الناطق الرسمي باسم الحركة الشعبية مبارك أردول الذي ينظر لقوات الدعم السريع بأنها إحدى تمظهرات التهميش في السودان، وقال أردول لـ(ألترا صوت) أن المطالبات بإبعادها من الخرطوم بالحلول القاصرة والتي تعبر عن تفكير نخبوي شعبوي لن تؤدي لنتيجة، معتبراً أن التعامل مع الدعم السريع يجب أن تكون أحد مؤشرات التعامل مع قضايا التغيير، وأضاف أردول بأن "سياسات النظام وتصرفات بعض الحركات المسلحة هي التي أدت لظهورها في المشهد، وأن الطريق الوحيد لمعالجتها هو أن يتم ذلك من خلال الترتيبات الأمنية: ليشمل أيضًا إعادة هيكلة القطاع الأمني بمافيه قوات حركات الكفاح المسلح والجيش لصناعة جيش وطني جديد .

انسحاب تدريجي

إلا أن الإنتهاكات المتكررة لتلك القوة ودورها في عملية فض الإعتصام جعلت الجميع يطالب بابعادها من العاصمة الخرطوم، وهو ما افترض سؤالا استنكارياً : هل سنبعد موتهم إلى مناطق أخرى؟ لأن القوات نفسها تورطت في مشاكل منتصف هذا الأسبوع بعيدًا عن العاصمة، تحديدًا في منطقة السوكي بولاية النيل الازرق، انتهت بسحبهم من قبل الجيش، إلى خارج المدينة، والمشهد نفسه تكرر بالتزامن في مدينة (الضعين) غرب السودان، مما جعل الناطق الرسمي العميد جمال جمعة آدم، يقول في تصريح لسونا إن قوات الدعم السريع سيتم سحبها تدريجيًا من الخرطوم وفقًا للحالة الأمنية، وشدد جمعة على أن وجود القوات بالخرطوم أملته الظروف الأمنية، وإذا استقرت الأوضاع فلا داعي لانتشارها.

هل ستفلح الاتفاقية بين قوى الحرية والتغيير في إنجاز التحول المدني، أم أن الرغبة الشعبية في السودان ستصطدم بمصالح الغرب مع حميدتي؟ 

بعيدًا عن الاختراق وانتحال الشخصية ومحاولات قيادات هذه القوة إبعاد شبح الاتهامات عنها، فإن ثمة مواقف متعددة في الشوارع أو إفادات لمواطنيين تقول بأن أفرادًا من هذه القوات متورطون في عدد من التجاوزات وفي مناطق مختلفة، يرد عليهم قادتها بأنهم ليسو ملائكة ويخطئون مثل الآخرين. لكن هل ستفلح الاتفاقية بين قوى الحرية والتغيير في إنجاز التحول المدني، وإعادة تركيب هذه القوات أم أن الرغبة الشعبية في السودان ستصطدم برغبات الغرب الذي يتعامل مع حميدتي كحارس بوابة يمنع المهاجرين عبور المحيطات إليهم؟ علاوة على الدور الغامض لهذا الجيش، جيش حميدتي الضارب، والذي بدأت تتعاظم قوته ونفوذه كما لو أنه مدخر لأمر ما خطير طي الكتمان.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الجنود السودانيون في اليمن.. ضحايا صفقة المجلس العسكري مع الرياض

أربعينية مجزرة القيادة العامة.. الشارع السوداني يقود نفسه