04-يوليو-2017

ألفريدو سبات/ الأرجنتين

يقول الرّاوي: بات يُزعجني تناقض الجزائري، فهو يُطالب الآخرين بالصّدق في التعامل معه، لكنه لا يُمارسه في تعامله معهم! الجميع يكذب على الجميع، في مقابل شكوى الجميع من الجميع! لماذا استقال علماء الاجتماع والنّفس والباحثون فيهما من مقاربة هذا المقام؟ لماذا باتوا يهربون إلى الكتب والنظريات والمناهج، فباتت بحوثهم قراءة للكتب لا للواقع؟ من يقرأ هذه التحوّلات والانزياحات الجزائرية في التفكير والسّلوك والقاموس؟

يقول الرّاوي: بات يُزعجني تناقض الجزائري، فهو يُطالب الآخرين بالصّدق في التعامل معه، لكنه لا يُمارسه في تعامله معهم!

يعترف أكثر: بتّ أتفادى حالة الكذب العامّة، باللجوء إلى الحانة والتقوقع على نفسي في زاوية قصيّة منها، فأتحوّل إلى أذن كبيرة تسمع ما حولي من عقول ونفوس وألسنة. هناك أجد جرعة الكذب أقلّ، وتصبح خافتة تمامًا في آخر الليل، حيث تستعير النفوس شفافية الكؤوس، فتظهر أقربَ إلى حقيقتها. وأنا لا يزعجني أن تظهر كذلك، إذ أدرك أنني لست في المدينة الفاضلة ولا أحلم بالوصول إليها، من الوهم الحلم بذلك. لكن يزعجني الزّيف والتزييف.

اقرأ/ي أيضًا: من يحمي الجزائر من سياسة الترقيع؟

لن أخفي أنني انزعجت هذا الأسبوع من وجبات كذب كثيرة. وزيرة التربية تصف قرار رئيس الجمهورية بمنح فرصة للطلبة المتأخرين عن امتحانات البكالوريا بالحكيم والمراعي لمصالح "أولادنا"، وهي نفسها التي وضعت قرار طرد المتأخرين. ورئيس الحكومة الجديد يقول إن وزير التجارة السّابق بدّد أموالًا طائلة، وكأنه لم يكن زميلَه قبل أسابيع في حكومة عبد المالك سلّال! ثم لماذا يقول هذا الكلام للشعب ولا يدعو العدالة إلى أن تتحرّك؟ هل سيكرّرون سيناريو وزير الطاقة الأسبق شكيب خليل؟ اتهموه بتبديد أموال الشعب والتواطؤ مع مصالح خارجية، ثم استقبلوه بالبساط الأحمر وفتحوا له قنوات البلاد من جديد؟

بائع اللحم يكذب وبائع الخضر يكذب وبائع الفواكه يكذب. فقد رفعوا أسعار سلعهم بمجرد دخول شهر رمضان، ثم ضاعفوها بحلول العيد. وزير التجارة يكذب، لأنه لم يحرّك مصالح مراقبة الأسعار. وجمعيات حماية المستهلك تكذب، لأنها لم تتفاعل مع الأمر. وعدّاد الكهرباء يكذب، فقد ضخّم فاتورتي، حتى في الفترة التي كنت فيها في عطلة خارج البيت. وقابض الضرائب يكذب، فهو يساوي بين ضريبة حانوت صغير ومصنع كبير كبر نفوذ صاحبه. وإمام المسجد يكذب، فهو يتحدث عن عذاب القبر، ولا يلقي بالًا إلى عذاب الواقع الذي أثمره الكذب العام.

إمام المسجد يكذب، فهو يتحدث عن عذاب القبر، ولا يلقي بالًا إلى عذاب الواقع الذي أثمره الكذب العام

التلميذ في المدرسة يكذب، فهو يسخّر خبرته التكنولوجية في الغش. وأستاذه يكذب، لأنه يغشّ أيضًا في مسابقات الترقية. سائق التاكسي يكذب، لأنه يضاعف السعر لزبون لا يعرف المكان. والبرلمان يكذب لأنه لا يحاسب الفساد الحكومي، ويبرر مشاريع قوانين وضعت لحماية الفاسدين. والصحفي يكذب بتلميعه هذا الفساد. والكاتب يكذب برفضه لسياسات الحكومة في مجالسه وفيسبوكه، لكنه لا يفوّت عرسًا تقترحه هذه الحكومة. والمسرحي يكذب بإيغاله في الرمزية بحجة أن الفنّ إشارة وليس تصريحًا.

اقرأ/ي أيضًا: احذر فربما تكون ثقافتك سبب فقرك!

كانت الحانة غارقة في دخانها وحنانها. وكان عبادها غارقين في كؤوسهم ونفوسهم، وكنت غارقًا في سؤالي المزعج، "متى نخرج من هذه الحالة؟". لعب السّؤال برأسي، فقمت خطيبًا في المكان: متى نترك الكذب أيها الناس؟ متى ندرك أننا سنخرّب مستقبلنا بتصالحنا معه؟". أوقف النادل الموسيقى. أوقف الشاربون أحاديثهم. فعمّ صمت أربكني وجعلني أصمت أيضًا. لماذا تنخفض الأصوات المعارضة في الجزائر حين يُتاح لها أن تعلو؟ لماذا تخون الخطاب؟ تقدّم نحوي كهل مهندم ظهر لي أنه جاري، وصفعني بهذا السؤال: لماذا أخبرتني في الهاتف بمكان وجود الرّادار في الطريق السّريع؟ أليس هذا كذبًا وخيانة أيضًا؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

لعنة السوري

وطن أقلّ