26-أبريل-2020

توابل متنوعة

أفاقت كشمير يومًا لتجد نفسها قطعة جغرافية مُمزّقة بين الهند وباكستان، تُثير شهيتهما فتفتحُ بينهما صراعًا تعنونهُ حروبٌ طويلة بدّلت أحوال "ظلّ الجنّة" لتكون جحيمًا مفتوحًا وساحة حربٍ مؤجّلة تفوح منها، عند كلّ هُدنة، روائح النعرات الطائفية بين المسلمين والهندوس والسيخ، تلك التي تُشعل شرارة صراعًا آخر حول المحرّمات بين الطرفين من مأكولات ونكهات وتوابل وبهارات غذّت صراعًا ثقافيًا تغذّت منهُ الصراعات السياسية دائمًا.

أقحمت الحساسية المُفرطة بين مكوّنات "كشمير"، عرقيًا ودينيًا وثقافيًا، التوابل في لبّ الصراعات حولهُ

سارت الأمور تقريبًا على هذا النحو في البقعة الجغرافية المُتنازع عليها؛ تهدأ الصراعات الكبيرة حولها فتشتعلُ صراعاتٍ أخرى محلّية تختلفُ أسبابها بين دينية وعرقية، أو ثقافية أحيانًا، كتفضيل القرفة على الكاري مثلًا، أو وضع الفلفل الحار في مرتبةٍ أعلى من الزنجبيل، والمُجاهرة بذلك كنوعٍ من وسم هذا التابل أو ذاك بالانحطاط. هكذا، تغيبُ أي فرصة للحوار بين المكوّنات والتوابل والأساليب، تمامًا كغياب أي فرصة للحوار بين الأطراف المتنازعة على "ظلّ الجنّة"، حيث يُقابل التعصّب الدينيّ والعرقيّ تعصّبٌ آخر لأساليب إعداد الطعام وكيفية تتبليه والتوابل المُتّبعة لفعل ذلك.

اقرأ/ي أيضًا: نساء الاستعمار

أقحمت الحساسية المُفرطة بين مكوّنات "كشمير"، عرقيًا ودينيًا وثقافيًا، التوابل في لبّ الصراعات حولهُ، أي الإقليم الذي تحوّل فيه كلّ تابلٍ بعينه إلى جزءٍ من هوية طرفٍ من الأطراف المتصارعة عليه، وهو ما انعكس على وصفات الطعام المحلّية التي تحوّلت إلى هوياتٍ قاتلة، وفقًا لما يرويه جاسبرت سنغ في روايته "الشّيف" (دار الرفدين) التي أطلّ منها على مأساة كشمير من خلف نافذة مطبخ بطلها. ومن خلال العودة إلى تاريخ التوابل، نجد أنّها كانت بحدّ ذاتها سببًا لصراعاتٍ عديدة نشبت بين مختلف الدول التي سعت للسيطرة على سوقها وطُرق تجارتها ونقلها، كونها كانت آنذاك مصدرًا لجمع الثروات.

الباحث الأمريكيّ فريد كزارا يسردُ في كتابه "التوابل: التاريخ الكونيّ" (مشروع كلمة) كيف اشتعلت المنافسة على أشدّها بين الدول الأوروبية الوازنة مثل إسبانيا وبريطانيا وفرنسا والبرتغال وهولندا للمشاركة في سوق التوابل أو السيطرة عليها منذ القرن الخامس عشر. قبل هذا التاريخ، يُقال إنّ مدينة البندقية الإيطالية كانت تحتكر تجارة التوابل القادمة من الهند وشرق آسيا، وأنّها حقّقت أرباحًا هائلة بسبب هذا الاحتكار الذي طوت البرتغال صفحتهُ بعد تدشينها لعصرٍ جديد عُرِفَ آنذاك بـ "عصر الاكتشافات".

بدأت الإمبراطورية البرتغالية عصرها الجديد هذا بعد اكتشافها طريقًا بحريًا جديدًا يصلها بآسيا وسواحلها عبر الدوران حول إفريقيا، لتُعبّد بذلك الطريق للحملات العسكرية الأوروبّية التي انطلقت لغزو مُدن وسواحل آسيا الشرقية، خاصّةً الهند وماليزيا وإندونيسيا، ممّا جعل البرتغاليين أصحاب اليد العليا في تجارة التوابل وتصديرها، بعد أن جمعوا وفقًا للشّاعر البرتغالي لويس كاموس القرنفل من تيرنايت، والفلفل من مالابار وإندونيسيا، وجوزة الطيب من باندا، والقرفة من سيرلانكا، وذلك بينما كانت تجمعُ في الوقت نفسه أشياء أخرى من أماكن مختلفة تمكّنت من استعمارها.

انتزعت هولندا من البرتغال السيطرة على سوق التوابل فيما بعد، ثمّ جاءت بريطانيا لتجرّدها ممّا كسبتهُ بالقوّة من الإمبراطورية البرتغالية، قبل أن تدخل على خطّ هذه المنافسة فرنسا والدنمارك وغيرها من الدول التي بدأت صراعًا طويلًا ومعقّدًا فيما بينها حول التوابل وتجارتها. فبينما مثّلت عاملًا مهمًّا في تغيير عادات الأكل عند الشعوب، واكتشاف أساليب جديدة في الطبخ، كانت التوابل على الطرف المُقابل عاملًا رئيسيًا في تبدّل خرائط السيطرة العالمية، والصعود بدولةٍ ما على حساب دولةٍ ثانية انتهت بمجرّد خروجها من المنافسة العالمية المحتدمة على القرفة والزنجبيل والقرنفل وغيرها.

وبحسب كزارا، تُعدّ تجارة التوابل بدايةً لعصر العولمة الاقتصادية، كونها أسّست رابطةً خفّية تجمعُ مختلف دول العالم ضمن دائرةٍ واحدة، كانت نتيجتها أنّه لو وقعت حادثة ما في إحدى هذه الدول فإنّها سوف توثّر وإلى حدٍّ كبير على دولٍ وشعوبٍ أخرى في قارّةٍ ما بعيدة.

سكنت التوابل مخيّلة بعض الشعوب باعتبارها أساطير خالصة، فنُسِجَت حولها الأقاويل، وسرت الشائعات كذلك

بعيدًا عن الصراعات التي قامت بين مختلف دول العالم آنذاك، خاصّةً الاستعمارية، سكنت التوابل مخيّلة بعض الشعوب باعتبارها أساطير خالصة، فنُسِجَت حولها الأقاويل، وسرت الشائعات كذلك تُعزِّزها حكايات ومفاهيم خاطئة كانت تُقدّمها على أنّها مرآةً جديدة لفهم العالم، وهو ما أسهم في تحقيق تقدّم شاسعٍ في رسم الخرائط وتحديد طُرق الإبحار، عدا عن نقل العلوم والتقاء الثقافات وفقًا لفريد كزارا الذي ذكر في كتابه أنّ قلّة التوابل كانت سببًا رئيسيًا في ظهور العديد من الحكايات والأساطير حولها، تلك التي كانت مُرتبطةً إلى حدٍّ بعيد بفكرة الفردوس، فكانت نبتة مثل القرفة بمثابة جزءٍ من عبير الجنّة عند بعض الشعوب التي وصلتها هذه النبتة.

اقرأ/ي أيضًا: ما تريد معرفته عن قضية كشمير

أمّا عند الفينيقيين، فيُقال إنّ الطيور نقلت القرفة من بلادهم إلى شبه الجزيرة العربية، حيث كانت تحملها إلى أعشاشها على حواف الجبال. وحتّى يحصلوا عليها، اعتاد العرب قطع جثث حيوانات كبيرة ووضعها قرب العش، حتّى إذا جاء الطائر وحطّ على عشّه، يسقط العش ومعهُ القرفة فيُسارع العرب لالتقاطها. بينما تقولُ حكايات أخرى إنّ الطيور استعملت القرفة كمادّة لبناء العشّ وأنّ العرب كانوا يطلقون السهام ذات الرؤوس الرصاصية لتحطيم العش وإسقاط القرفة.

هذه الحكايات القريبة من الأساطير، خلّدها الشاعر الإيرلنديّ توماس مور في واحدة من قصائده: "هذه الطيور الذهبية التي تهبط في وقت التوابل/ في الحديقة ثملةً بهذا الطعام العذب/ الذي جذبهم عطره فوق فيضان الصيف/ وتلك الطيور تحت أشعة الشمس العربية الرقيقة/ تبني أعشاشها المبطنة بالقرفة". عربيًا، كان إسحاق الموصلي قد عبّر عن مكانة التوابل عند العرب من خلال قصيدة وصف فيها طريقة إعداد "السنبوسة"، حيث قال في أحد أبياتها: "وبعده شيء من القرنفل/ وزنجبيل صالح وفلفل/ وكفّ كمون وشيء من مري/ وملء كفين بملح تدمر".

 

اقرأ/ي أيضًا:

توابل جزائرية لموت لا توابل له

سالغاري والقرصان الأسود