22-يناير-2019

عمل فني لـ فولكمار كوهن/ ألمانيا

تطالعنا الصحف والقنوات العالمية يوميًا بأخبار عن جرائم القتل، وأنباء عن صدمات طائفية ومشاحنات مذهبية، وقصص عن الاعتداءات والتحرشات التي تضايق المرأة في الأماكن العامة، وحكايات عن حالات الاغتصاب، والعنف الأسري.

باتت الحياة محاصرة تجري داخل مستنقع مليء بالعنف السياسي، تمارسه سلطة سياسية ومنظومة مجتمعية

باتت الحياة محاصرة تجري داخل مستنقع مليء بالعنف السياسي، تمارسه سلطة سياسية ومنظومة مجتمعية بميلشياتها الدينية وأحزابها اليمنية المتطرفة.

اقرأ/ي أيضًا: إدواردو غاليانو: الحروب تكذب

العنف هو مشهد دراماتيكي وليد ظروف متعددة وأسباب متشابكة، له علاقة بأوضاع سياسية واقتصادية وتنموية وثقافية قائمة. اليوم بلغ حجم العنف مستويات تهدد وجود كيانات الدول والمجتمعات، يتحمل الخطاب الديني جزءًا من المسؤولية، منابر يعلوها صوت التطرف والتعصب انعكس على شكل ميلاد سلوكيات عنيفة تجاه الغير والآخر. لماذا يطبع العنف حياتنا؟ لماذا تلجأ السلطة السياسية إلى قمع المعارضين والمحتجين؟ لماذا الخطاب الديني يخزّن بكميات هائلة من المفردات الإقصائية والتصنيفية؟

إن مصطلح التسامح بأبعاده الفلسفية وقيمته الأخلاقية غائب عن الثقافة المجتمعية السائدة اليوم، وهو أيضًا بعيد عن الأدبيات الشعرية والكلامية، فالتسامح كفضيلة تربط العلاقات بين الأفراد شبه منعدم الوجود، حيث لم يتم تأسيسه كمعيار قيمي يحدد الفواصل بين السلوكيات المتعددة والمختلفة.

إن التسامح قيمة فلسفية ومعرفية يتولد عنها بناء سلوك اجتماعي يحدد الترابط الوظيفي بين الأفراد والجماعات، ويضع المسافات بين السلطة السياسية القائمة على الشرعية القانونية، وباقي المجتمع السياسي والمدني. وتنتج عن التسامح جملة من المعايير المجتمعية كحرية التعبير وحرية الإبداع وحرية الامتلاك، واختيار نمط الحياة وأسلوب العيش المختلف، وقبول الآخر المتعدد المتنوع، وتجاوز الكثير من الاختلافات في المعتقدات والأيدولوجيات والعرقيات.

إن كل المنظومات السياسية والدينية والجغرافية التي تحكم الفرد العربي، والمغاربي بطبيعة الحال، تجعل من التدافع والخضوع لمنطق القوة المعيار الذي يحكم العلاقات الاجتماعية والسياسية، فباسم القانون والشرعية الثورية التاريخية والانقلابات العسكرية يتم قهر المعارض السياسي والمواطن، وتحت ذريعة المرجعية الدينية الوطنية يتم تهميش المكونات الدينية المختلفة، وتتراجع المواطنة إلى أدنى شرط في تحديد المستويات والتراتبية الاجتماعية تجاه الحقوق والواجبات.

تجدر الاشارة أن السياقات التاريخية أوجدت كيانات ودول متنوعة إثنيًا وعرقيًا ومذهبيًا، لكن تلك الكيانات لم تكن قادرة على إيجاد البعد الفلسفي والثقافي في وضع أرضية توافقية تجمع مختلف المكونات المواطناتية، ولم توفر الدول الكولونيالية صيغة مرحلية وزمنية للعبور إلى السكة الديمقراطية، التي تحمي العرقيات، وتعترف بها، هي وباقي التشكيلات الإثنية والمذهبية وتقرر التداول السياسي والتمثيل الشعبي، فصعود القبيلة والعشيرة والعصب الفئوية في إدارة الدولة حمل معه جينات الزعامة والقوة في إدارة الشأن العام، وكانت تصفية الخصوم سياسيًا السبيل الأمثل في توحيد المجتمعات أفقيًا عبر عسكرته.

في هذا السياق، أدرك ثوار الجزائر استحالة القبول والتعايش مع المكون الأوروبي غداة الاستقلال، ما حدا إلى إقرار جملة من القوانين التعجيزية في تجنيس هؤلاء، وعلى الرغم من إبعاد المكون الأوروبي من النسيج الاجتماعي، لم تستطع الدولة الوطنية احتواء التنوع الثقافي والتعددية الهوياتية والسياسية والمذهبية، حتى في الفضاء السني.

 بينما أمضى تصاعد الحركات الهوياتية والأقلية العرقية والإثنية وانتشار المذاهب الدينية داخل الوطن الواحد، والجغرافية الواحدة. التحدي الأكبر الآن يكمن في إيجاد صيغ قانونية وإدارية، ومخرجات سياسية في احتواء التعددية، ومن دون تأسيس وتأصيل ثقافة التسامح فالإجراءات السياسية ما هي إلا حلول ترقيعية. فماذا نعني بالتسامح؟

بعيدًا عن الأعمال الفلسفية لأرسطو حول ضرورة التسامح، في فضاء المدينة في السياق التاريخي في أوائل العصر الحديث، تشكلت فكرة التسامح حول محاور: المعركة ضد التعصب والقمع الديني، وكان البحث عن كيفية الوقاية والمعالجة من الصراعات الدينية بين البروتستانت والكاثوليك، واستطاعت الجذور الليبرالية للحضارة الغربية من توسيع مفهوم التسامح ليشمل باقي النزعات والاختلافات، داخل المجتمعات المعاصرة التي تُعرف بالتعددية الثقافية والاخلاقية والايدلوجية والجنسانية.

في المقابل، تجدر الملاحظة عجز المنظومة الدينية الإسلامية في إعادة صياغة المفاهيم التي ترسم العلاقات بين الأفراد وفق مفهوم المواطنة، بعيدًا عن التصنيفات التوحيدية وعقيدة الولاء والبراء ودار الإسلام  ودار الكفر.

إنني أختلف معك في الرأي والسلوك والمعتقد، لكنني لن أحاول إجبارك على تغيير الرأي أو السلوك أو المعتقد

يقول جون هورتن: "يتضمن التسامح قرارًا إراديًا بالامتناع عن حظر أو إعاقة أو التدخل الإجباري في ممارسة ما لا يتوافق المرء عليه، حتى وإن كان يمتلك السلطة اللازمة لذلك". ويقدم أندرو جيسون كوهين في كتابه "ما هو التسامح؟" تعريفًا آخر: "الفعل المتسامح هو امتناع الشخص بشكل قصدي ومبدئي عن التدخل في ما يعارضه من فعل أو سلوك". بالمختصر المفيد، يمكن تلخيص هذا التعريق في عبارة: إنني أختلف معك في الرأي والسلوك والمعتقد، لكنني لن أحاول إجبارك على تغيير الرأي أو السلوك أو المعتقد، سواء بالقوة أو القهر أو الضغط.

اقرأ/ي أيضًا: إشكاليات علمية وأخلاقية حول الإجهاض

في الخاتمة، لا يقتضي وجود التسامح حل النازعات وفض الحروب وانعدام السجالات والاختلافات، بل بالعكس، وجود التسامح هو البيئة التي تثمر فيها الأفكار ويتحقق فيها التنوع والتمييز، بل يقتصر وجوده في حيلولة دخول الخلافات والنزاعات في منعطف مدمر من حروب وعنف مادي وجسدي، يأتي على الأرواح والممتلكات، وينتج التسامح قيمة أخلاقية أساسية في السلم المجتمعي والاحترام المتبادل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

اللغة وسيلةٌ للتواصل!

هل كان المسلمون قديمًا يحتفلون بميلاد المسيح؟