18-يناير-2019

إدواردو غاليانو (صورة: Democracy Now)

يعود هذا النص إلى السنوات العشر الأخيرة من حياة الكاتب إدواردو غاليانو الذي رحل عام 2015، فقد نشره في موقع "فولتاريو نت" عام 2005، على خلفية مشهد سياسي عالمي محتدم.


"ولكن ما الدّافع؟ سأل السيّد دوفال مستفسرًا، لا يقتل الإنسان من أجل لا شيء. الدافع! أجاب إليري رافعًا كتفيه، أعتقد بأن حضرتك تعرف السبب".

  • مغامرات في قصر الظلام" - إليري كوين

 

تدّعي الحروب بأنها تقوم من أجل غاياتٍ نبيلة، كالأمان والكرامة الوطنية، القانون والحرية والديمقرطية والحكم المدني، أو لأسباب حضارية أو بمشيئة من الله. لم تمتلك أيٌّ منها الشجاعة للاعتراف: "أقتلُ من أجل السّرقة".

تعد الكونغو من البلدان المدقعة في الفقر لكنها غنية جدًا بالمعادن، غير أن عطية الطبيعة هذه تحولت إلى أكبر لعنة في التاريخ

ما لا يقل عن ثلاثة ملايين مدنيّ قتلوا في جمهورية الكونغو على مدى أربعة أعوام من الحرب التي ما زالت معلقة منذ أواخر عام 2002. لقد قتلوا من أجل معدن الكولتان، حتى هم لا يدركون ذلك، وهو معدن غريب يدل اسمه على مزيج من معادن غريبة تُدعى الكولمبايت والتانتالوم. وقد كان معدنًا رخيصًا حتى اكتُشف أنه مكوّن رئيسيُّ يدخل في تصنيع الهواتف النقالة والمركبات الفضائيّة وأجهزة الكمبيوتر والصواريخ، ولهذا أصبح أغلى من الذهب. ويتركز الاحتياطيّ الأكبرمن هذا المعدن في جمهورية الكونغو.

اقرأ/ي أيضًا: إدواردو غاليانو.. شهرزاد الجنوب

منذ أكثر من أربعين عامًا اغتيل لومومبا(1) على مذبح الذهب والماس، وما زال وطنه يقتله كل يوم. تعد الكونغو من البلدان المدقعة في الفقر لكنها غنية جدًا بالمعادن، غير أن عطية الطبيعة هذه تحولت إلى أكبر لعنة في التاريخ.

يطلق الإفريقيون على البترول اسم "خراء الشيطان"، في عام 1978 اكتُشف البترول في جنوب السودان، وبعد سبعة أعوام على ذلك وصل الاحتياطي إلى أكثر من الضعف، وتتركز النسبة العظمى منه في القسم الغربي من الإقليم.

في إقليم دارفور، حدثت مجازر مؤخرًا وما زالت تحدث حتى هذا اليوم. أعداد كبيرة من المزارعين السود قد هربوا أو استسلموا تحت تهديد السلاح، إما بالسكاكين أو بسبب الجوع، على يد ميلشيات عربية مدعومة من قبل النظام الحاكم بالمدفعية والمروحيات.

وتتخفى هذه الحرب تحت غطاء حرب عرقية ـ دينية بين العرب المسلمين والفلاحين المسيحيين السود. لكن ما يحدث حقيقة أن هذه القرى التي أُشعلت فيها الحرب وهُجّر مزارعوها، تتموضع حيث بدأت أبراج البترول باختراق الأرض.

إنكار الوقائع قد نُسب زورًا للسكارى، فهي في الواقع من أكثر عادات رئيس العالم وضوخًا(2)، والذي نشكر الله أنه لا يشرب قطرة خمر، فهو ما زال يؤكد أن حربه على العراق لا دخل لها بالبترول "لقد خدعونا بإخفاء معلومات بشكل ممنهج". 

في عام 1920 كتب المدعو لورانس العرب من العراق "لقد استُدرج شعب إنجلترا إلى بلاد ما بين النهرين للإيقاع به في مصيدة لا يمكن الخروج منها بنزاهة وشرف". أعرف بأن التاريخ لا يُعاد لكنني أشك في ذلك أحيانًا.

وماذا عن المعارضة ضدّ الرئيس الفنزويلي أوغو تشافيز أليس لها علاقة بالبترول الموجود في فنزويلا؟ حملة محمومة تهدد الدكتاتور الذي كسب انتخابات نظيفة مجددًا بالقتل باسم الديمقراطية (3). كذلك صرخات الإنذار خيال الخطر النووي الذي تشكله إيران أليس لها علاقة بامتلاك الأخيرة للمخزون الأكبر من للغاز الطبيعي في العالم؟ وإلا كيف يمكن تفسير هذا الخطر النووي؟ هل كانت إيران من رمى قنبلة نووية على هيروشيما وناجازاكي؟

تمتعت شركة بكتل الإنجليزية، القائم مقرها في كاليفورنيا الأمريكية، بحق التصرف في مياه كوتشابامبا(4) طوال أربعين عامًا، جميع مياهها بما في ذلك مياه الأمطار، وحالما تأسست الشركة تضاعفت الأسعار بشكل كبير، قرية صغيرة ثارت ضدها وترتب على الشركة أن تغادر بوليفيا، أشفق الرئيس بوش على الشركة المطرودة وقام بإرضائها بمنحها مياه العراق. كان ذلك كرم أخلاق من قبله، فالعراق ليس جديرًا بالإبادة بسبب احتياطيه من البترول وحسب، بل إن هذا البلد الذي يرويه نهرا دجلة والفرات يستحق أسوأ مصير لامتلاكه أكبر منابع المياه العذبة في الشرق الأوسط.

العالم عطِش والسّموم الكيماوية تلوّث الأنهار والجفاف يتسبّب في انحسار مجاريها، وتتضاعف احتياجات المجتمعات المستهلِكة من المياه يومًا بعد يوم. فالمياه الصالحة للشرب تفقد نقاوتها وتزداد ندرتها. الجميع يردّد هذا والكل يعرفه. حروب البترول ستصبح مستقبلًا حروبًا من أجل المياه.

في الحقيقة إن حروب المياه قد بدأت فعليًّا بالحدوث، إنها حروب فتوحات أيضًا لكن المستعمرين هنا لا يرمون قنابل، ولا يقومون بعمليات إنزال عسكرية. بل يسافرون بلباس مدني، هؤلاء التكنوقراطيين الدوليين الذين يُرسَلون إلى البلدان الفقيرة أو التي هي في حالة حصار ويفرضون عليها الاختيار بين الخصخصة أو الانهيار. أسلحتهم هي أدوات ابتزازٍ وعقاب قاتلة. لا تُحدث ضجيجا ولا تثير لغطًا.

البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، فكين لذات الكماشة، لقد عملا في الأعوام الأخيرة على فرض خصخصة المياه في ستة عشرة من البلدان الفقيرة. من بينها أفقر دول العالم مثل جمهورية بنين الأفريقية ونيجيريا وموزامبيق، راوندا واليمن وتانزانيا والكاميرون وهندوراس ونيكاراغوا. وكانت الحجة دامغة، إما أن تعطونا المياه أو لن نرحمكم فيما يخص الديون المترتبة عليكم، كما ولن نمنحكم مزيدًا من القروض. وكان لدى المتخصصين الخبرة اللازمة في لتفسير أنّ ما يفعلونه ليس من أجل المساس بالسّيادة الوطنية، بل من أجل المساعدة في تحضّر تلك البلاد الغارقة في التخلف بسبب انعدام الكفاءات.

فإذا كان معظم السكان غير قادرين على دفع حسابات المياه المخصخصة سيكون هذا أفضل بكثير، لنرى إن كان ذلك سيحفز إرادتهم النائمة للعمل والتفوق الفردي أخيرًا.

التكنوقراطيين الدوليين يُرسَلون إلى البلدان الفقيرة ويفرضون عليها الاختيار بين الخصخصة أو الانهيار

من الذي يحكم فعليًّا يا ترى في ظل النظام الديمقراطي؟ المسؤولون الدوليون أصحاب الثروات الطائلة والمرشحون من قبل لا أحد؟

اقرأ/ي أيضًا: كيف يفكّر ثلاثة من أبرز أدباء أمريكا اللاتينية؟

مع نهاية أكتوبر/تشرين الأول (2005)، تقرّر مصير مياه الأورغواي عبر استفتاء شعبي، شاركت فيه النسبة العظمى من السكان، من أجل التأكيد على أن المياه هي خدمة عامة وحق عام. كان انتصارًا للديمقراطية ضد تقليد العجز المتعارف عليه الذي علمنا بأنّنا غير قادرين على إدارة المياه أو أي شيء آخر. وضدَّ السّمعة السّيئة للقطاع العام الذي فقد مصداقيته نتيجة استغلال السياسيين له وإساءة استخدامه كما لو أن ما للجميع كان ملكًا لشخص بعينه.

استفتاء الأوروغواي لم يكن له أي تأثير على الصعيد الدولي، ولم تعلم وسائل الإعلام العالمية بهذه المعركة في غمرة حروب المياه القائمة، المياه الضائعة بسبب الذين يربحونها دائمًا. ومثال الأوروغواي لم يكن معديًّا لأيّ بلدٍ آخر في العالم.

كان هذا أوّل استفتاء حول المياه حتى يومنا هذا، وللعلم فإنه الأخير أيضًا.


هوامش

(1) لومومبا: مناظل كونغولي ذو ميول اشتراكية. أول رئيس منتخب في تاريخ الكونغو. قتل بطريقة وحشية من قبل معارضيه. تشبه كثيرًا الطريقة التي قتل فيها الصحافي جمال خاشقجي.

(2) المقصود هو جورج بوش الابن، الرئيس الأمريكي في تلك الحقبة.

(3) لو أن الكاتب عايش المرحلة الحالية وما آلت إليه أحوال الشعب الفنزويلي لغيّر نظرته حول هذه النقطة، ولوجد أن النموذج الذي تبناه الرئيس تشافيز، وهو النموذج الاشتراكي، كان فاشلًا بكل المقاييس وكان أحد أسباب الهجوم عليه، وهنا أقصد المعارضة الداخلية السلمية.

(4) كوتشابامبا: مدينة بوليفية مساحتها 170كم مربع تقع في جبال الأنديز.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الإمارات.. مهرجانات عاجزة عن تجميل وجه الاستبداد

هل خسرت الشعبوية اليمينية فعلًا؟