08-أغسطس-2019

مقاتلون من حركة أحرار الشام 2014

مراجعة مسيرة فصائل المعارضة المسلّحة، على اختلاف أيديولوجياتها، لم تشمل، في الغالب، أي مراجعاتٍ لنشاطاتها السياسية، والسبب أنّ الفصائل نفسها أهملت الجانب السياسي، وأنكرت جدواه، لصالح نشاطها العسكري الذي ضمن لها حضورًا ونفوذًا متزايدًا في الميدان في سنوات 2011 وحتّى منتصف عام 2013. وعلى الرغم من أنّ بعض الفصائل، لا سيما الضخمة منها، عملت على تأسيس مكاتب سياسية، إلّا أنّها في المقابل لم توفّر لها ما يكفي من الدعم والإمكانيات التي لا بدّ منها لنجاحها نجاحًا حقيقيًا في مجالها. ولم تنتبه إلى أنّ إهمالها هذا جعل من نشاط مكاتبها، مع الوقت، لا يتعدّى حدود العلاقات العامّة، ولا يتّصف بصفةٍ أخرى غيرها.

سلفية كتائب أحرار الشام سلفية هشّة وغير مكتملة مقارنةً بالتنظيمات ذات الأيديولوجية الصلبة التي دأبت على التمايز عنها

حال أحرار الشام، في بداياتها، أي حينما كانت لا تزال مجموعة كتائب، لم يكن مختلفًا عن حال الفصائل المسلّحة. نتحدّث عن مرحلة ما قبل الإعلان عن تأسيس الحركة، أي عن فترةٍ زمنية تمتدّ من تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، تاريخ إعلان تشكيل الكتائب، وحتّى نهايات عام 2012. ويعود غياب النشاط السياسي التام للأحرار في ذلك الوقت إلى ثلاثة عوامل رئيسية، هي: 1-حداثة التنظيم، وربّما هو العامل الأبرز. 2-عمله ضمن إطار "الكتائب" بمفهومها العسكري الضيّق. 3-هويّته الأولى التي أُشيعت عنه، أي اعتباره تنظيمًا سلفيًا جهاديًا مقاتلًا، الأمر الذي يجعل بطبيعة الحال من ممارسة العمل السياسي الذي سيحتّم عليه التواصل وإقامة العلاقات مع دول خارجية يُفترض أن يكنّ لها العداء وفقًا للفكر السفي الجهادي التقليدي؛ من المحرّمات.

اقرأ/ي أيضًا: بعد حربها على "الجند"..أحرار الشام على مفترق طرق

لكنّ سلفية كتائب أحرار الشام، في الواقع، كانت سلفية هشّة وغير مكتملة مقارنةً بالتنظيمات ذات الأيديولوجية الصلبة التي دأبت على التمايز عنها. وفي الوقت الذي كانت فيه لغة الأحرار وراياتهم وشعاراتهم وعدم تبنّيهم لعلم الاستقلال دليلًا على هويّتهم السلفية الجهادية، وذريعة لإلصاق هذا النعت بهم؛ كانت مرونة الجماعة في التعامل مع المجتمعات الأهلية المحلّية، وكذلك عناصرها القادمين من تلك المجتمعات تحديدًا، والشرعية الحقيقية التي حظيت بها بفعل ضمّها لمقاتلين سوريين من المدن والمناطق التي تنشط فيها، تنفي عنها الطابع السلفي الجهادي التقليدي. وتؤكّد سعي قادتها للتمايز عن تلك الهوية والعمل على تكوين هوية جديدة بديلة عنها، تكون بالدرجة الأولى محلّية وقريبة من المجتمعات الأهلية على الدوام.

انتقال أحرار الشام من "كتائب أحرار الشام" إلى "حركة أحرار الشام الإسلامية"، ومن قبلها دخولها في تحالف "الجبهة الإسلامية السورية"، أعاد نفي سلفية الجماعة "المُجاهدة" لا "الجهادية"، وأكّد حداثة مشروعها غير المرتبط بأي تجارب أو نماذج سلفية سابقة. وعكس الدخول في التحالف المذكور، وتأسيس الحركة، ومن ثمّ الإعلان عن تشكيل "الجبهة الإسلامية" كبديلٍ عن الجبهة الأولى؛ رغبة قادة الأحرار في طرح مشاريعهم السياسية والمجتمعية والإدارية، لتكون الاندماجات السابقة إعلانًا صريحًا بانتقال الأحرار نحو العمل السياسي أخيرًا.

انتقال الجماعة نحو السياسة بآفاقها الواسعة، كان الهدف الرئيسي إذًا من تحوّلها نحو الشكل الحركي أو المؤسّساتي، وطي صفحة العمل ضمن إطار الـ "كتائب" الضيق. ولا نتجاوز هنا أو نقلّل من أهمية الأهداف الأخرى لهذا التحوّل التي لا تقلّ عن أهمّية الهدف المذكور قبلًا، وهي تأسيس مكاتب تُعنى بالمسائل المدنية والخدمية والإدارية والتشريعية، وتوفّر جميعها، من خلال نشاطها في المناطق المحرّرة، باعتبارها بديلًا عن مؤسّسات النظام، الشرعية اللازمة لنجاح الجناح السياسي للحركة، محليًا ودوليًا.

عبّر الجناح السياسي لحركة أحرار الشام الإسلامية عن تطوّر خطاب قادتها، وتجاوزهم للخطاب السلفي الجهادي الذي خرجوا به من معتقل صيدنايا، نحو خطابٍ أكثر حداثة، يتّسق مع هوية الحركة المحلية، ويعكس أيضًا رغبتهم في أن يكون لها، الحركة، دورًا أكبر من مجرّد قتال النظام، باعتبارها لم تعد فصيلًا مقاتلًا ينتهي دوره عند الحلول أو التسويات السياسية، وإنّما مؤسّسة عسكرية ومدنية لها مشروعها المتكامل ورؤيتها السياسية والمجتمعية لسورية ما بعد إسقاط النظام، بعيدًا عن كلّ ما يتّصل بإقامة إمارة أو خلافة إسلامية.

تكون الحركة إذًا، وبناءً على كلّ ما سبق وأن ذكرناه، وعلى مستوى الفصائل المسلّحة، صاحبة أول تجربة سياسية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري. تُميّز أو تقدّم تجربتها بأنّها مستقلّة عن الهيئات والمنظمات السياسية المعارضة التي تأسّست خارج سورية وداخلها، كـ "المجلس الوطني السوري"، ومن بعده "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية"، وبأنّها تستمدّ شرعيتها السياسية من نفوذها ومن مناطق سيطرتها، توسّعت بشكلٍ ضخم مطلع عام 2012 وحتّى منتصف عام 2013؛ وإنجازاتها العسكرية في الميدان. ومن حاضنتها الشعبية التي كانت تنمو بصورةٍ متسارعة بفعل عوامل عدّة، منها محلّية الحركة، وعنصرها السوريّ أيضًا.

بات واضحًا مما سبق ذكره أنّ السياسة وممارستها كانت أولوية عند قادة الأحرار في مرحلة ما بعد تأسيس الحركة. وتجلّى هذا الاهتمام بتفضيل الحركة، ممثلةً بمؤسّسها وقائدها حسان عبود (أبو عبد الله الحموي) رئاسة الهيئة السياسية للجبهة الإسلامية، التجربة الاندماجية التي دفعت بالحركة بضع خطواتٍ للوراء، إذ تبنّت حينها خطابًا جديدًا لا يهمّش الخطاب الثوري الوطني الذي كان لا يزال قيد المراجعة، ولكنّه بدا ميالًا أكثر نحو السلفية الجهادية، مع التذكير بتمايزه عن السلفية التقليدية وفكر القاعدة. وبات حينها شعار الجبهة "مشروع أمة" شعارًا للحركة أيضًا، يُعبّر عن توجّهاتها في تلك المرحلة التي طغت فيها أدبيات السلفية الجهادية على خطاب بعض قادة الأحرار، لا سيما في المعسكرات التدريبية، الأمر الذي جعل عناصر الحركة أشدّ تأثّرًا بهذا الخطاب من غيره.

عبّر الجناح السياسي لحركة أحرار الشام عن تطوّر خطاب قادتها، وتجاوزهم للخطاب السلفي الجهادي نحو خطابٍ أكثر حداثة يتّسق مع هوية الحركة المحلية

رغم هذا التحول الناعم والمفاجئ والمؤقت في خطاب الأحرار، ظلّت الحركة في المقابل تحاول التوازن بين خطاب السلفية الجهادية والخطاب الثوري، واتّخاذ الوسط بين هذين الخطابين موقعًا لها، بحيث تضمن لنفسها نشاطًا سياسيًا مرنًا. ولكنّ ظهور تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) مطلع نيسان/ أبريل 2013، ودخوله في صدامٍ عنيف مع الحركة تمخّض عنه فقدانها السيطرة على المنطقة الشرقية وأجزاء من ريف حلب؛ دفع بنشاطها السياسي إلى الخلف، وباتت الأولوية مواجهة التنظيم الجديد عسكريًا وفكريًا.

اقرأ/ي أيضًا: آخر أصدقاء سجن صيدنايا

فرض تنظيم داعش على المشهدين الجهادي والثوري معًا واقعًا جديدًا حُدّدت ملامحه بالمزايدات والاتّهامات والتكفير والغلو، تمهيدًا لضرب الفصائل الوطنية والبغي عليها، وكذا التنظيمات السلفية الجهادية التي لم تُبايعه، واعتبرته تنظيم "خوارج". أحرار الشام كانت في ذلك الوقت لا تزال تقف على الحياد، وتتّخذ موقفًا ضبابيًا من التنظيم، وتحاول الخروج أولًا من المآزق الفكرية والمرجعية التي وقعت بها بعد الإعلان عن تأسيسه، وبدء مرحلةٍ جديدة تتطلّب إظهار الهوية السلفية والإسلامية، واتّخاذ مسافاتٍ أكبر من الخطابات الوطنية والثورية التي كان قادة الأحرار قد وضعوا هوية حركتهم بينها وبين السلفية "المجاهدة"، أي في الوسط تمامًا.

التنظيم استغل تخبّط الأحرار وعدم قدرتهم على وضع تصنيفٍ له يُحدّد طبيعة علاقتهم معه، للهجوم على المؤسّسات والمقرّات والمعسكرات التابعة لهم في مدينة الرقة التي كان الجزء الأكبر منها تحت سيطرتهم، والنتيجة كانت خروج حركة أحرار الشام من المنطقة الشرقية، وإدراك قادة الحركة أنّ هزيمتهم أمام داعش كانت فكرية قبل أن تكون عسكرية، والسبب اعتزال عددٍ من عناصرهم قتال التنظيم حينما أصدر القيادة أوامر بقتاله، والتبرير أنّ التنظيم يرفع رايات التوحيد، وأنّ عناصره من المسلمين، وأنّهم "إخوة دين ومنهج". أدرك القادة حينها أنّ هناك ثغرات وفجوات عميقة في العقيدة القتالية عند عناصرهم، بفعل غياب هوية فكرية واضحة للجماعة التي دفعت سلفيتها الناقصة المقاتلين للبحث عن سلفية مكتملة وجدوها عند تنظيم الدولة، الأمر الذي تطلّب إعادة بناء عقيدة قتالية تحمل فكرًا جديدًا قادرًا على الدفع بالعناصر لقتال التنظيمات السلفية والإسلامية التي تحمل فكرًا غاليًا وتبغي على من لا يطيعها ويبايعها.

فرض تنظيم داعش على المشهدين الجهادي والثوري معًا واقعًا جديدًا حُدّدت ملامحه بالمزايدات والاتّهامات والتكفير والغلو

تزامنت إعادة بناء عقيدة قتالية جديدة مع مراجعاتٍ كبيرة أجراها قادة الأحرار على خطاب الحركة، واستبداله بخطابٍ جديد يمزج بين الفكر السلفي غير التقليدي ولا الجهادي، والخطاب الوطني الثوري المحلّي. وأظهرت هذه المراجعات أيضًا كما أوضحنا في الفصل الأول من البحث قدرة حسان عبود ورفاقه على مراجعة الأفكار ونقد الذات، ليصير خطابهم أكثر واقعية، كانت نتيجته توقيع الحركة مع عددٍ من الفصائل ما عُرف بـ "ميثاق الشرف الثوري" الذي أثار حفيظة السلفيين الجهاديين في الداخل والخارج، وأكّد نيّة الأحرار أيضًا على الانتقال نحو خطابٍ وفكرٍ أكثر انفتاحًا وواقعية، كانت نتيجته أن خسرت الحركة قادة صفّها الأول والثاني في حادثة "المقر صفر" يوم 9/9/2014.

اقرأ/ي أيضًا: أحرار الشام في مواجهة "جند" فتح الشام

لم يكن لتجربة أحرار الشام السياسية ما قبل تاريخ استشهاد القادة المؤسّسين أي زخمٍ أو إنجازات، والسبب تزامن انتقال الأحرار نحو العمل السياسي مع ظهور تنظيم الدولة الذي وضع الحركة في موقع الالتباس المرجعي والفكري، وطردها من مناطق سيطرتها في ريف حلب والمناطق الشرقية، الأمر الذي سيغيّر من استراتيجية الحركة، ويدفعها للعزوف عن السياسة لصالح المراجعات الفكرية الكبيرة التي ستترك بلا شك تأثيرًا إيجابيًا على تجربتها السياسية ما بعد تجاوز مرحلة استشهاد المؤسّسين، باعتبار أنّها مراجعات أسّست لمرحلة جديدة وسّعت من أفق خطاب الأحرار وحركتهم السياسية.

 

  • المقال جزء من كتاب يتناول تجربة حركة أحرار الشام الإسلامية كاملةً.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أحرار الشام نحو كسر حصار الغوطة الشرقية.. الإسناد غائب!

تغييرات هيكلية في قيادة أحرار الشام.. هل تنجح في تفادي الانهيار؟