23-نوفمبر-2020

عمل فني لـ منير فاطمي/ المغرب

في التاريخ الثقافي يوجد الكثير من القصص المدونة حول عدم فهم نصوص فلسفية أو أدبية أو قصائد "جديدة" في ظهورها لأول مرة. وثمة الكثير من التفاسير المختلفة حول ذلك. نتذكر أن أبا تمام، على سبيل المثال، أجاب على قائل: لماذا تقول ما لا يُفهم؟ بقوله: لماذا لا تفهمون ما يقال؟ وأن المتنبي تفاخر أنه ينام "ملء جفونه عن شوارداها/ ويسهر الخلق جرها ويختصم".

إن التأتأة هي ذلك اللسان الخاص الذي يتعين على الكاتب أن يمتلكه إلى جانب لسانه الشخصي

يمكن تفسير ذلك تفسيرًا ليس ناتجًا فقط عن عجرفة أبي تمام والمتنبي و"شوفة الحال" التي كانا يتمتعان بها، بل بأمر آخر ذي صلة باللغة. اللغة بنية، تقول هي ما اعتادت على قوله، لا الكاتب. الأمر مرتبط بفاشية اللغة من حيث هي إرغام على القول، وليست إرغامًا على منعه. وعندما تظهر نصوص "جديدة" يتمكن الكاتب فيها من أن يقول هو، لا اللغة، ما يريد قوله، يكون بهذا دخل على بنية اللغة فغّيرها، وواجه فاشيتها بأنه قال ما كانت منعته عن قوله.

اقرأ/ي أيضًا: ديوان "أكزيما".. نزهة في منامات محمود عوّاد

اللغة، أثناء الكتابة، تتدفق فطريًا، وتضع ألفاظها وتعابيرها المعروفة والمتداولة تاريخيًا بلا تغيير، بلا دلالات أخرى، وبلا معنى جديد في النصوص (الفلسفية والأدبية والقصيدة... على السواء)، الأمر الذي يجعل القارئ يقبل عليها اعتياديًا أيضًا، دون مراجعات، ودون محاولات لتفسيرها، إذ إنها ما اعتاد عليه وما عرفه خلال قراءاته كافة.

التدفق الفطري للغة يعتمد على الكلام التاريخي والمتداول والشرعي من حيث كونه ابنًا طبيعيًا للسياق، أو للنسق الذي خلقته اللغة وخلقها في آن واحد، عبر تاريخ مديد من محاولات هذا النسق ليكون منسجمًا.

النصوص "الجديدة" التي تواجه بنية اللغة وفاشيتها تعمل على ما يمكن أن يكون: التأتاة داخل اللغة. التأتأة توقف التدفق الفطري للغة، وبذا يتم نزع الألفاظ من تاريخيتها ومن تداولها، ويتم كسر النسق الذي يؤويها ويحميها. التأتأة تمنع النسق المتشكّل تاريخيًا من الانسجام، وتخلق لسانًا آخر داخل اللسان ذاته، أشبه ما يكون بلسان هامشيين، لسان أهل التجوال الذين لا يستطيع التاريخ تصنيفهم، بل إنهم يهربون من ذلك.

إن مطالبة أبي تمام أن يفهموا ما يقول، هي مطالبتهم أن يستوعبوا ويفهموا اللسان الآخر، الخاص الذي كتب به. وإن اختصام الآخرين جراء نص المتنبي هو محاولة منهم لترجمة ذلك اللسان، الذي يمتلكه المتنبي إلى جانب لسانه الشخصي.

عندما تم عرض نماذج من شعر محمد الماغوط على شعراء مجلة "شعر"، وقد تم إخفاء اسم الشاعر، قالوا إنها لبودلير أو رامبو. إذ إنه بدا لهم، كأنه مكتوب بلسان أجنبي. لقد تأتأ الماغوط تأتأته الخاصة، بلسانه الخاص الذي يمتلكه إلى جانب لسانه الشخصي.

إن مطالبة أبي تمام أن يفهموا ما يقول، هي مطالبتهم أن يستوعبوا ويفهموا اللسان الآخر، الخاص الذي كتب به

إن التأتأة هي ذلك اللسان الخاص الذي يتعين على الكاتب أن يمتلكه إلى جانب لسانه الشخصي. يمكن القول إن المراحل المعرفية، أقله في بدء تشكلها، تنطوي على هذه التأتأة، ولهذا تحاط بهالة سميكة من عدم الفهم، ذلك أن القراء يكونون قد اعتادوا على اللسان المعرفي السائد والتاريخي وعلى طريقته في القول، وما إن تظهر حالة من حالات التأتأة، حتى يكون القارئ وقف أمام حالة من عدم الفهم، وهكذا..

اقرأ/ي أيضًا: السردية التعبيرية في مجموعة "عالم الغريب"

إن تأتأة نيتشه وفوكو ودريدا... إلخ، كل بلسانه الشخصي، أدت إلى خلخلة أنساق معرفية غربية برمتها. وكان ذلك ترافق مع قلق أوروبي جراء عدم فهم ما يكتبون. بالإطلاع على ظهور البنيوية، كمثال، نجد أن حالة من السخرية رافقت طريقتها في التعبير، وشاعت حالة من الرسم الكاريكاتيري الساخر الذي يهزأ من الصعوبة في فهمها، كذلك وُضع جاك دريدا موضع التندر من قراء كثيرين جراء المصطلحات التي كان لا ينفك يبتكرها.

إن تاريخ المعرفة والإبداع تأتأة متواصلة. التأتأة هي الطريق الموارب الذي يبتكره الكاتب ليدخل عبره إلى تاريخية اللغة ليتمكن من أن يقول، هو، ما يريد قوله، لا اللغة. هي أسلوب شخصي في الكتابة. بمعنى أن لكل كاتب (جديد، بمعنى يقدم طروحات جديدة) طريقه الموارب الخاص.

في الثقافة الغربية يشاع أن كلًا من ماركس وفرويد أسّسا فجر ثقافة أوروبية، وأن نيتشه أسّس فجر ثقافة مضادة. فإذا كان ذلك صحيحًا يمكن القول إن نيتشه أسّس، عبر تأتأته الخاصة، فجر ثقافة مضادة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ابدعْ لوحتك الأخيرة ومتْ

الشعر العربي: جنايات الحداثة