01-أكتوبر-2020

غرافيتي لنيتشه في مونتريال

 

نيتشه جرم مرتحل في فضاءات عصره وكلّما حط رحالهُ في وادٍ اكتسى بصبغته الفكرية كحرباء بشرية، لكن ما يميزهُ هو أنّهُ انتقائي لما يقتنيه. فبداية يختار السماوي كونهُ وُلِدَ لعائلة متدينة وأسلاف من القساوسة، فأبوه القس البروتستانتي اللوثري اختار له اسم فريدريك تيمنًا بالملك كأنّه يُلقي عليه تميمةَ حظ، موا لبثتْ أن استحالت العكس وهو يطالعُ تداعي صحة والده، حتى قُرِعتْ طبلتا أذنيّه ذات يوم في ربيعه الخامس بانهيار والده على السُلّم أثر اعتلال دماغي.

كان كتاب "هكذا تكلم زرادشت" يشع شِعرًا وفلسفة أخلاقية مبتكرة، ملئُه العنفوان في عصرٍ لم يستسغه

لتبدأ مرحلة التعصب الديني ودكتاتورية بيتٍ تحكمه النساء، حيث سيعيش طفولتهُ مع جدته وعمتيه، والدته وأخته الصغيرة. في هذه المرحلة صار حافظًا للإنجيل ويرتله بعذب الصوت، متلمسًا نوتات مهَدتْ الطريق لمعانقة الموسيقى الكلاسيكية في سنيّ مراهقته، وهو يحلق بعيدًا مع عبقرية متغطرسة لألحان ريتشارد فاغنر. والذي سيلتقيه لاحقًا في عام تخرجه من الجامعة ويستحيل موسيقارهُ المفضل إلى صديقه المقرب لمدة ثمانية أعوام، ثم يدقُ ناقوسُ الفراقِ مُدَويًا ليهجره نيتشه محملًا بامتعاضٍ شديد لعنصرية فاغنر.

اقرأ/ي أيضًا: نيتشه.. فلسفة التخفّي

أما أولى زهرات أشعاره تفتّحت بعد لقاء أرنست أورتلب الثمل بشعره وخمره وازدرائه للأديان، وهذا ما غرس البذرة الأولى لفكرة "الإنسان الأعلى" فيما بعد.

بعدها جاءت كتابات هيغل وبرونو باور لتنأى بنيتشه بعد فصل واحد من دراسة اللاهوت إلى فقه اللغة، وكانت كتابات شوبنهاور تؤسس فيه هيكلية الفيلسوف، حتى أنه يُصرّح في كتابه "تأملات قبل الأوان" بأن شوبنهاور معلمه. فيكمل دراسته الجامعية ويعمل كأستاذ في جامعة بازل لعقدٍ من اللغة..

عام 1879 يستقيل من العمل الجامعي لأسباب صحية ليبدأ عقدٌ من الفلسفة، وكأنّ الاعتلال العصبي المتبوع برصاصةِ الخيبة التي فطرتْ القلب جرعات تحفيزية للإبداع أدتْ إلى غزارة النتاج الفلسفي، إذ أثمرت ما ينيفُ على أحد عشر مؤلفًا، وكانت تحفته "هكذا تكلم زرادشت" 1883 تشعُ شِعرًا وتكتنزُ فلسفة أخلاقية مبتكرة تختلف عن سابقاتها وتجلس ملئُها العنفوان في عصرٍ لم يستسغها لفرادتها.

وبعدما كان شبحُ المرض يراوده بين الحين والآخر قرّر أن يجثمَ على جسد نيتشه عام 1889 في مُقام طويل، فكانَ عقدٌ من الجنون خاتمة للعقود.

"مات الإله، ونحنُ الذينَ قتلناه" (العلم المَرِح، 1882) التهمة الأولى ملحد! عنى نيتشه أن البشاعة التي اقترفها بنو البشر باسم أديان ابتدعوها وباسم إله اختلقوه قد درسوا بها معالم الأديان الحقيقية ووجه الرب. ويُكمل قولَهُ: "كيف لنا أن نعزّي أنفسنا ونحن قتلة؟ من كان أكثر قداسة وعظمة في العالم نزف حتى الموت بسبب خناجرنا. منذا الذي يمسح الدماء من على أيدينا؟ أي مياه تكفي لتطهير أرواحنا؟ أي طقوس تطهير مقدسة يجب أن نمارسها؟".

"كلمة المسيحية بالذات هي سوء فهم، في الحقيقة كان هناك مسيحي واحد فقط، ومات على الصليب" (عدو المسيح، الجزء 39) التهمة الثانية معادٍ للدين المسيحي. كان لنيتشه الكثير من المؤاخذات على المسيحية والتي ينسبها إلى تلاعب الكهنوت، إلا إن إعجابه بالمسيح وتقديراته الأخلاقية كان باديًا.

نيتشه: "إنّها الحقيقة: نحنُ نحبُ الحياة، لا لأننا تعوّدنا على الحياة، بل لأننا تعوّدنا على الحُبّ"

"إذا كان معبد على وشك أن يُشيَد، وجب أن يُدمّر معبد" (جينالوجيا الأخلاق، المقالة 2، القسم 24) التهمة الثالثة هادم للركائز القيمية! راح نيتشه يؤسس لمنظومة أخلاقية جديدة لذلك دعا لهدم المنظومة القديمة والتقاليد البالية. ولعلهُ بالغَ قليلًا!

اقرأ/ي أيضًا: حصان نيتشه ووردتي السوداء

كان مدركًا لزوابع الاختلاف حوله، لذا بعث شفرة لقرّائه مبينًا أيهم سيُدرك كنهه "وإنَّ أقصر طريق في الجبل لهي تلك التي تمضي من قمّة إلى قمّة، لكن لابد لكَ من ساقين طويلتين لأجل ذلك. على الأحكام أن تكون قمّة، والذين يتوجه إليهم بالكلام ينبغي أن يكونوا عمالقة وذوي قامات سامقة" (هكذا تكلم زرادشت).

وبرغم وابل الأسى في حياته وبعض التشاؤم في كتاباته، إلا أنه صدحَ إيجابية وجمالًا، حينما كتب: "إنّها الحقيقة: نحنُ نحبُ الحياة، لا لأننا تعوّدنا على الحياة، بل لأننا تعوّدنا على الحُبّ" (هكذا تكلم زرادشت).

 

اقرأ/ي أيضًا:

سورين كيركغارد في سيرته: "أنا فيلسوف الفرد"

"موت المؤلّف".. الحميميّة في مقابل النظريّة