30-مارس-2019

عاد ملف عمر البشير إلى واجهة قضايا الجنائية الدولية (Getty)

في تموز/يوليو 2008، أصدر المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية القاضي الأرجنتيني لويس أوكامبو مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني عمر البشير، متهمًا إياه بالتورط في ارتكاب إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور غرب السودان، لكن الحكومة السودانية رفضت تلك الاتهامات بالمرة واعتبرت الجنائية إحدى آليات الاستعمار الحديث.

حرص البشير مؤخرًا على تعيين شخصيات طالتها لائحة الجنائية في مناصب رفيعة بالدولة، وهذا يعني ضمنيًا تحصينًا للسُلطة بشخصيات تواجه بالضرورة مصيرًا مشتركًا

بدا الرئيس البشير منذ البداية غير عابئ بلائحة الاتهامات، وتعامل مع الجنائية بنوع من التحدي والمواجهة في محاولة لكسر العزلة التي حاولت فرضها عليه، ومضى أكثر من ذلك باستثمار القضية سياسيًا في حملاته الانتخابية، من خلال حشد الجماهير والكثير من دول الجوار لمواجهة ما اعتبرها ازدواجية غربية، وفرض أجندة سياسية على الشعوب الأفريقية الحرة.

اقرأ/ي أيضًا: عام الثورة على المأساة في السودان

حرج القمة العربية

بالرغم من الزخم الذي صاحب قرار الجنائية بتوقيف الرئيس السوداني وعدد من قادة نظامه، إلا أن القضية لم تراوح مكانها واستحالت بعد أحد عشر عامًا إلى مناشدات للدول الأعضاء تتجدد فقط مع  رحلات البشير الخارجية.

في الأيام الماضية، عادت المحكمة الجنائية إلى دائرة الأضواء مجددًا على خلفية انعقاد القمة العربية في تونس نهاية الشهر الجاري، وقالت "هيومن رايتس ووتش" إنه يتعين على تونس أن تمنع دخول الرئيس السوداني إلى أراضيها، أو تقوم بالقبض عليه إذا دخلها.

كما دعت المديرة المشاركة لقسم العدالة الدولية في منظمة حقوق الإنسان إليس كيبلر، تونس إلى "إظهار التزامها بالعدالة الدولية بمنع الرئيس البشير من دخول أراضيها أو توقيفه إذا وطأت قدمه البلاد"، مشيرة إلى أن "البشير هارب دولي ويجب أن يكون في لاهاي لمواجهة التهم الموجهة إليه، لا أن يحضر مؤتمرات قمة يستضيفها أعضاء في المحكمة الجنائية الدولية"، علمًا بأن تونس تعتبر من الدول الموقعة على ميثاق المحكمة الجنائية.

لكن الخرطوم وفقًا لمصادر صحفية، لم تتلق أي تحفظات من الحكومة التونسية إزاء مشاركة البشير، وبالرغم من ذلك تقرر أن يقود وفد السودان للمشاركة في القمة العربية النائب الأول ووزير الدفاع الفريق عوض ابن عوف، غالبًا لتفادي أي مخاطر أمنية، وربما تجنبًا للحرج السياسي بين السودان وتونس، سيما وأن الأخيرة وقعت على ميثاق روما في العام 2011، لتصبح بذلك الدولة الأولى في شمال أفريقيا التي تقدم على هذه الخطوة والرابعة ضمن البلدان العربية بعد الأردن وجيبوتي وجزر القمر.

مسارات المناهضة

اتخذ السودان عدة مسارات لمناهضة الجنائية، مؤكدًا على الدوام موقفه الرافض أساسًا للتعامل معها، بحجة عدم توقيع الخرطوم على ميثاق روما. كما نحا البشير منحى مصادمًا في التعامل مع مدعي الجنائية، أوكامبو ومن ثم فاتو بنسودا، بتوجيه اتهامات لهما بالتآمر ضد بلاده، قائلًا في أكثر من خطاب جماهيري "أقول لهم جميعًا مدعي المحكمة الجنائية وأعضاءها ومن ساندهم، كلكم تحت حذائي"، وأضاف أن على مجلس الأمن والجنائية "بل قراراتهم بالماء وشربها" تأكيدًا على أنها بلا قيمة بالنسبة له.

ورغم أن هذه القضية تحديدًا ظلت تؤرق الرئيس السوداني بصورة شخصية وبعض المقربين له، فإن الحزب الحاكم ومؤسسات الدولة أظهرت دعمًا سياسيًا ومعنويًا مساندًا للبشير الذي زار عدة دول موقعة على ميثاق روما، منها نيجيريا وجنوب أفريقيا وأوغندا والأردن، وكانت أطول رحلاته إلى روسيا والصين اللتين استقبلتا البشير بحفاوة كبيرة، دون أن تتمكن دولة من توقيفه وهو ما دفع بنسودا إلى اتهام بعض الدول بعدم الوفاء بالمواثيق الدولية وتقويض سمعة مجلس الأمن الدولي الذي أحال القضية إلى المحكمة الجنائية، بجانب ما اعتبرته بن سودا "تقاعسًا مكلفًا يمكن أن يقوض جهود محاربة الإفلات من العقاب" على حد وصفها.

آليات الاستعمار الأبيض

كان الاتحاد الأفريقي منصة أخرى لمواجهة قرارات المحكمة الجنائية، ونجح السودان في انتزاع مواقف إقليمية مساندة له، تحديدًا في القمة الأفريقية التي عقدت في 2013 بأديس أبابا والتي لوح فيها الزعماء الأفارقة بالانسحاب الجماعي من المحكمة الجنائية، وطالب هايلى ماريام ديسالي الرئيس الدوري للاتحاد الأفريقي حينها بإسقاط التهم التي وجهتها المحكمة الجنائية الدولية ضد الرئيس الكيني أوهورو كينياتا والبشير أيضًا، قائلًا إن "هدف المحكمة كان تجنب أي نوع من الإفلات من العقوبة، لكن الآن العملية تحولت الى نوع من الاصطياد العنصري بعيدًا عن النضال ضد هذه الحصانة"، واعتبرها قادة أفارقة واحدة من "آليات الاستعمار الأبيض".

مع مرور سنوات على مذكرة التوقيف بحق الرئيس السوداني، فإنها لم تفلح في الحد من تحركاته، وإنما وفرت له فرصة لتعزيز قبضته على الدولة، وأصبح البشير هو الممسك بزمام السيطرة فعليًا في البلاد، مع الأخذ في الاعتبار أن حراك الشارع السوداني بات أخطر عليه من المحكمة الجنائية، كما يرى البعض، إذ أفلح الثوار لأول في هز قوة النظام الحاكم وإجباره على إعلان حالة الطوارئ وعسكرة الحكومة نسبيًا.

اقرأ/ي أيضًا: الشارع السوداني ينتفض ضد الجوع والقمع.. لا شيء لدى السلطة إلا "البوليس"

الجولة الأخيرة

وينظر عدد من الزعماء السودانيين إلى أهمية البحث عن صيغة أخرى لمعالجة الأزمة الدارفورية وآثارها الجنائية، من بينهم الصادق المهدي رئيس حزب الأمة المعارض الذي اقترح "إجراء عدالة انتقالية عن طريق محكمة هجينة مختلطة أو مفوضية للحقيقة والإنصاف"، تنظر في المظالم وجرائم الحرب في دارفور.

مع مرور سنوات على مذكرة التوقيف بحق الرئيس السوداني، فإنها لم تفلح في الحد من تحركاته، وإنما وفرت له فرصة لتعزيز قبضته على الدولة

من جهته حرص البشير مؤخرًا على تعيين شخصيات طالتها لائحة الجنائية في مناصب رفيعة بالدولة، مثل تكليف أحمد هارون برئاسة المؤتمر الوطني وتعيين الفريق عوض بن عوف وزير الدفاع في منصب النائب الأول، وهذا يعني ضمنيًا إحكام حلقة متماسكة حول القصر الرئاسي. ولربما تبدو أيضًا بمثابة تحصين للسُلطة بشخصيات تواجه بالضرورة مصيرًا مشتركًا، ولا يمكن بأي حال أن تتخلى عن حائط الصد الأخير في مواجهة ادعاءات الجنائية، وهذا يثير العديد من الأسئلة، أهمها إلى ماذا ستنتهي الجولة الأخيرة بين البشير والمحكمة الجنائية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لماذا لا يسقط النظام في السودان؟ (3-3)

السودان في المؤشر العربي.. إيمان بالديمقراطية وأولوية للقضية الفلسطينية