16-ديسمبر-2019

يستمر الإضراب في فرنسا يوم الثلاثاء مهددًا موسم الأعياد (Getty)

قبل أيام، خرج ماكرون أخيرًا عن صمته المطبق فيما يخص إصلاحه الجديد لنظام التقاعد، من على منصة مؤتمر صحفي في بروكسل وتحت إلحاح الصحفيين، قال: "كل ما يمكن قوله إن هذا الإصلاح تأسيسي وتاريخ لهذه البلاد". لم يختلف هذا التصريح عما بسطه رئيس وزرائه إدوار فيليب، يوم الأربعاء الماضي 11 كانون الأول/ديسمبر، أثناء مثوله أمام الجمعية العامة الفرنسية، وفي بث تابعه الملايين من شغيلة البلاد، عرض الصيغة النهائية للإصلاح الجديد لنظام التقاعد، بعد تحديثه عن إرغام وضغط من الشارع.

في بيان نشر صبيحة السبت 14 كانون الأول/ ديسمبر، ضم تسع نقابات عمالية، ممثلة فئات عمالية مختلفة، بالغة أقصاها العددي بعد انضمام النقابات الداعمة للحكومة إلى خط المعارضة، أعلنت الشغيلة الفرنسية عن استمرارها في الإضراب

ذات الإصلاح الذي تغرق البلاد من أجله في حالة شلل تام، والإضراب العام المفتوح التي دعت له المركزيات النقابية الفرنسية يدخل يومه التاسع. كان إدوارد فيليب وحكومته، ورئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون ذات نفسه، يرون في هذا العرض فرصة لإقناع الجماهير بطرحهم، بتفاؤل أكبر بتهدئة الأمور واحتوائها، وفي أكثر السيناريوهات تشاؤمًا تأكيد الدعم البرلماني من حلفائهم لتمريره. لكن، وحسب ردود الأفعال التي تلته، يبقى هذا الأمر رهين الشك، والمراقبون يرون فيه البداية الفعلية للعاصفة.

اقرأ/ي أيضًا:  فرنسا.. موجة احتجاجات جديدة ضد قانون العمل

ما جاء به إدوارد فيليب..

إنها "الثورة الاجتماعية"! هكذا قدم إدوارد فيليب لمشروع إصلاح التقاعد، الذي حمله للأمة الفرنسية ظهيرة يوم الجمعة من منصة الجمعية العامة. وبطبيعة الحال، عبر توطئته للطرح ابتغى بلوغ أقصى مستويات الترويج والإقناع للمشروع.

هكذا تحدث رئيس الحكومة الفرنسية عن ضرورة هذا الإصلاح، قائلًا إن "الوقت قد حان لإنشاء نظام تقاعدي موحد". مشيرًا إلى أن الطموح لتوحيد أنظمة التقاعد هو طموح "للعدالة الاجتماعية"، لا تريد الحكومة من خلاله "إلحاق الضرر بأحد، ولن يكون هناك رابح وخاسر".

في ظل التقسيم التقاعدي الراهن تتبع شغيلة فرنسا كل منها إلى ما مجموعه 42 نظامًا، كل نظام يراعي المهنة أو المهن المتعلقة به، وظروف عمالها. تطرح الحكومة عبر مشروعها الجديد توحيد كل هذه الأنظمة في نظام واحد يعتمد على التنقيط، بشرح مبسط: يجمع كل عامل طوال مدة اشتغاله نقاط في حسابه بصناديق التقاعد، بحيث يكون معاشه بعد التقاعد مجموع هذه النقاط مضروبة في معامل قيمة النقطة في تلك السنة. هذا المعامل المتغير كل سنة حسب إرادة الصندوق أما العامل فمعاشه رهين للحظ في أن يكون معامل القيمة مرتفعًا سنة خروجه. هذا ومع توحيد ورفع سن التقاعد إلى 64 سنة.

هذا ما يرفضه عمال فرنسا جملة، مع استمرارهم في الإضراب. يستبسل أكثر إدوارد فيليب في محاولة الإقناع، طارحًا ما اعتبر تنازلات تقدمها الحكومة، والتي تمثلت في تأجيل تطبيق النظام من جيل 1963 إلى 1975. ومحاولًا تهدئة الوضع، عمد فيليب إلى مخاطبة رجال التعليم، الفئة التي تمثل إضافة إلى السككيين العصب الحيوي للمعركة النضالية ضد مشروعه، قائلًا: "سننص في القانون على الضمان بأنّ مستوى المعاشات التقاعدية للمعلمين سيكون محصنًا وشبيهًا بمستوى المعاشات التقاعدية للوظائف أو المهن الموازية في الوظيفة العمومية". مضيفًا أن "الضمانات الممنوحة للفئات الأكثر قلقاً تبرر استئناف الحوار وإنهاء الإضراب الذي يعاقب ملايين الفرنسيين".

في عودة إلى خطاب التعنت، وقاطعًا اليقين باليقين، أضاف: أن المشروع لن يسحب ولن يسقط الإصلاح.  تضمن خطاب رئيس الحكومة إشارة رافضة لتلبية مطالب النقابيين والمتظاهرين منذ أيام، مبرزًا أن ما يقدمه رهان أساسي لرئيس الدولة، إيمانويل ماكرون، والذي على حد تعبيره: "جعل من تحويل البلاد أولوية له، ويراهن كثيرًا على هذا الإصلاح".

الحكومة تعض آخر أحلافها

مباشرة عقب عرض إدوارد فيليب، كان لوران بيرجي، زعيم الكونفدرالية الفرنسية الديمقراطية للشغل، أول المعلقين قائلًا: "بالنسبة لنقابتنا كان هناك خط أحمر لا يجب خرقه: عدم الخلط بين ضرورة الإصلاح البنيوي للنظام لإرجاعه أكثر عدلًا، والإصلاح البارامتري الذي يفرض على الشغيلة البقاء في وظائفهم لوقت أطول. وقد تم اختراقه". هكذا دعا بيرجي العمال المنضوين تحت نقابته الانضمام إلى الإضراب، والتظاهر يوم 17 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، مدينًا ما أسماه "تكنوقراطية المحاسبين!". 

الكونفدرالية الفرنسية الديمقراطية للشغل التي لطالما كانت أبرز الداعمين لطرح الإصلاح الموحد، ومبدئيًا إلى جانب حكومة ماكرون، كما  لم تدع سابقًا إلى إضراب الـ 5 ديسمبر وزعيمها الذي قال بالحرف يومها: "نقابتنا لن تشارك في الاحتجاجات". ها هي تترك جانب الوزارة وتلحق بركب المعارضة. لم تكن الوحيدة في ذلك، فقد عبّر الأمين العام لاتحاد النقابات الذاتية، رولان إسكور، عن خيبة أمله مما اعتبره "إجراءات صارمة" وكذلك "الضبابية التي لا زالت تحوم حول المشروع". رولان إسكور ونقابته التي كانت هي كذلك إلى جانب الحكومة، لم تعبر عن انضمامها للمعارضة، لكنها تراجعت عن دعمها لمشروع الإصلاح.

فيما حافظت النقابات المعارضة عن شعارها: الإضراب مفتوح حتى السحب النهائي للإصلاح. هكذا  صرح فيليب مارتينيز، الأمين العام للكونفدرالية العامة للشغل، قائلًا: "إدوارد فيليب وحكومته يسخرون منا، ويسخرون خاصة من الشغيلة التي قررت النضال من أجل حقوقها ومن الرأي العام الذي عبر عن سخطه على هذا المشروع المجحف". وفي بيان لها قالت الفدرالية الوحدوية للنقابات فرع التربية: "إن الجوهري في هذا الإصلاح هو تقليص المعاشات بالمقابل دفع العمال لأن يشتغلوا وقت أطول: هذا إذن إجهاز لرأس المال على معاشات الطبقة العاملة". هذا ودعت كذلك للاستمرار في الإضراب "الجامع لكل القوى الحية وكل شغيلة البلاد دون تقسيمات فئوية".

بيان الـ 17 كانون الأول/ديسمبر.. موعد جديد مع الشارع

في بيان نشر صبيحة السبت 14 كانون الأول/ ديسمبر، ضم تسع نقابات عمالية، ممثلة فئات عمالية مختلفة، بالغة أقصاها العددي بعد انضمام النقابات الداعمة للحكومة إلى خط المعارضة، تعلن الشغيلة الفرنسية عن استمرارها في الإضراب، ردًا على ما جاء به رئيس الحكومة سابقًا، والذي اعتبر حسب ذات البيان: "إدارة ظهر للشغيلة الفرنسية". كما عاب عليه الضبابية التي اكتنفت ذلك العرض "التي لا تصبو إلا إلى تمرير مغالطات على الرأي العام، والإجهاز على معاشاتهم وتعميم اللامساواة الاقتصادية بين كل الفئات العاملة بمعاشات أقل من الحد الأدنى للأجور".

من هكذا منطلق، تؤكد النقابات على عودتها إلى الشارع يوم الثلاثاء الـ 17 كانون الأول/ديسمبر القادم، من أجل "تنظيم وتحسين قواعد احتساب المعاشات، واحتساب سنوات التجميد الشغل العرضية في الحساب. إنشاء مخطط لخلق فرص الشغل والحماية التامة للأمن الاجتماعي، مع تقريب الخدمات العامة للمواطن وتعزيزها. تحسين شروط التطبيب وتعزيز البنية التحتية الاستشفائية".

يختم البيان قوله بكلمة لكل الشعب الفرنسي، قائلًا: "لقد كنتم كثرًا في صفنا يوم الـ 5 و12 كانون الأول/ديسمبر السابقين. يوم 17 القادم كونوا كذلك في الموعد من أجل إفشال كل إجهازات النظام على حياتنا اليومية، ونحن قادرون على ذلك بوحدتنا وانخراطنا".

اليمين دائمًا ضد العمال!

ومع استمرار التصعيد النضالي للنقابات العمالية بفرنسا، ولا انفراج يلوح على المدى القريب، مهددًا للسنة الثانية على التوالي موسم سياحة الأعياد بالكساد، كما كانت الحالة في السنة الماضية مع صعود حركة السترات الصفراء، يبدو الوضع مقلقًا، لا للعمال بطبيعة الحال، وعامة الشعب التي تراهن من احتجاجها على رفع جيف السياسات الاقتصادية التي ترشقهم بها تباعًا حكومة ماكرون. بل للطبقة المالكة والناطقين باسمها في ساحة السياسة: الأحزاب اليمينية.

اقرأ/ي أيضًا: اليمين الفرنسي ينادي فيون من بعيد: فخامة الرئيس

هكذا دعت مارين لوبان، زعيمة التجمع الوطني اليميني المتطرف، إلى "هدنة أعياد". كان ذلك في خرجة إعلامية لها على قناة BFMTV، قائلة: "يجب أن يعلّق الإضراب بمناسبة موعد الأعياد. فالأعياد حدث سنوي مهم عند المواطنين، وموعد عائلي مهما كانت الوضعيات الاقتصادية صعبة"، خالقة نقطة لقاء في الموقف مع الحكومة، التي تعارضها، والتي صرح وزير تعليمها ميشيل بلانكيه أنه "ليس لهم أي حق في شل حركة النقل أيام العطلة. وإن كان هناك شلل فليس من مسؤولية الحكومة".

وإن يكن موقف الحكومة أكثر وضوحًا من القضية، فمارين لوبان التي أعلنت سابقًا تضامنها "اللامشروط" مع اندلاع الإضرابات، تخفي خلف هذا التضامن حسب مراقبين كثيرًا من الانتهازية. ويرجعون ذلك للمعادلة الصعبة المطروحة بين أجنحة الحزب، حيث لا زال الجناح اللبيرالي منه ينظر إلى التحرك العمالي الأخير بعيون الريبة، حسب ما أوردت سابقًا جريدة لوموند. بالتالي ينبني موقف لوبان على هذا التوازن، من جهة الإبقاء على وحدة قواعدها، ومن جهة أخرى عدم فقدانها الرهان على الشارع التي قضت سنة مع السترات الصفراء في بنائه.

غير أن هذا الوجه، الذي تحاول الزعيمة اليمينية إخفاءه وراء ستار التضامن المرتبك غالبًا ما ينكشف، وانكشف سابقًا في كل من معارضتها رفع الحد الأدنى للأجور، ومعارضتها العفو على معتقلين السترات الصفراء، ودعمها للنموذج الاقتصادي النيوليبرالي الذي يقوده الرئيس المجري. 

إن يكن موقف الحكومة أكثر وضوحًا من القضية، فمارين لوبان التي أعلنت سابقًا تضامنها "اللامشروط" مع اندلاع الإضرابات، تخفي خلف هذا التضامن حسب مراقبين كثيرًا من الانتهازية

بالمقابل كان رد النقابات ثابتًا، بلا تراجع حتى تحقيق المطالب كاملة، خاصة والموسم السياحي يمثل أداة ضغط سياسية وضربة في قلب نمط الإنتاج الذي يقسوا عليهم بقراراته المجحفة. هكذا صرح الأمين العام للكونفديرالية العامة للشغل، أنه: "لا تعليق للإضرابات في العيد، إلا إذا رجعت الحكومة لرشدها".

 

اقرأ/ي أيضًا:

 هل فازت مارين لوبان بالانتخابات الأمريكية؟

هل حان دور فرنسا للخروج من الاتحاد الأوروبي