22-مارس-2021

فوتوغرافيا لـ غطفان غنوم/ سوريا

يتخذ الحديث عن الحافلات في فتوتي شكلًا معقدًا فيما لو تخيلته كرسم بياني على ورقة بيضاء.

فلا تكاد تمسك طرفًا حتى تفلته لصالح طرف آخر، وذلك لشدة تراكم الصور المتوافدة إليك من زوايا الذاكرة المثقلة بغبار الزمن.

شاءت الصدف أن أدرس الإعدادية والثانوية في مدرسة تبعد عن حارتي ما يقارب الأربع كيلومترات. قد لا يشكل مثل هذا الرقم عقبة في هذا الطور من العمر، لكنه في فترة المراهقة يمتد ليغدو وكأنه مائة ميل. لذلك كان لا بد من انتظار الحافلات.

كل شيء كان مزعجًا في تلك الفترة الصباحية من أيام الدوام المدرسي. ترك الفراش الدافئ، انتظار المدفأة المازوتية كي تلتحق بمزاجك الذي لا يناسبه برد الشتاء القابع بين جدران المنزل الرطبة، وياله من حظ عاثر حين تلفي نفسك مضطرا لتعبئة "الطاسة" بالمازوت بعد أن أفرغتها سهرة "طرنيب" جرت البارحة، ليس لك فيها ناقة ولا جمل.

تتساءل متكتكًا من شدة البرد، لم لم يجدوا لبرميل المازوت الصدئ مكانًا أفضل من سطح المنزل، الذي غدا أشبه ببركة مياه راكدة من شدة المطر؟

تمسح والدتك بقايا المازوت الذي طفح من فتحة الطابة الحديدية رغم حذرك الشديد وترقبك كي لا تفور الرغوة البترولية كالعادة حين تفتح الصنبور بطاقته القصوى.

لطالما تناولت الزيتون الأخضر مختلطًا بنكهة المازوت العالق على أصابعي، فلا الرائحة أجبرتني على شطف كفوفي ولا التنبيهات المستمرة من الأهل، لأن الماء المنسكب من صنابير المياه يكتسب حدة السكين صباحًا.

وقبل أن أعلق تمامًا في تلك المنطقة الزمنية الضيقة من صباحي المعتاد، سأحاول بسرعة أن أرتدي حذائي العسكري الواجب انتعاله كي يسمح لي بدخول المدرسة. فاللباس العسكري لباس إلزامي في بلادنا.

تفيدك الحركة لاحقًا والمشي السريع نحو موقف الحافلات المخصص بتطرية بوطك العسكري المتجمد، ومعادلته مجددًا كي يلائم قدميك كما لو أنك ترتديه لأول مرة مجددًا.

يحضرني هنا ذكرى تكررت كثيرًا في تلك الفترة، لطالما وضعت قدمي في الحذاء ففوجئت بوجود صرصور داخله، لربما كان يبحث عن دفء والعتمة وما تركه نهار سابق من رائحة تتميز بها أبواطنا.

هكذا إذا تحمل مزاجك الصباحي الذي شكلته تلك التفاصيل المنزلية نحو الحافلة.

وياله من أمر شيق انتظار الحافلة حتى لو كان المطر منهمرًا، أو مدرارًا، أو كان البرد قارصًا، حين تصدف مجموعة من الفتيات اللواتي اجتمعن بقربك تحت مظلة حديدية لا تتسع لأكثر من عدة أشخاص.

ترصد بمتعة حديثهن، وطلاوة أصواتهن وجمال وقعها على مسامعك، وتتظاهر بأنك منهمك بمتابعة حركة السير وترقب ظهور الحافلة من النقطة التي تلتقي عندها كل الخطوط في الأفق البعيد، وربما تنظر كل دقيقتين لساعة معصمك فيما لو كنت من الفتيان المحظوظين بامتلاك الساعة، ولذلك فلن يفوتك رفع يدك بحركة استعراضية تشي بالثقة واللامبالاة المفتعلة، وتتبعها بإيماءة امتعاض وتأفف، ظنا منك بأنك استلبت أنفاس الصبايا.

فيما بعد وحين اكتسبت الجرأة لأتأكد من اتجاه نظرات البنات، اكتشفت بأن كل حركاتي الاستعراضية لم تكن لتلفت انتباه أحد سواي. ولكن لا بأس فذلك يبقى أفضل من الانتظار الممل وحيدًا.

لو سألك أحدهم عن معنى كلمة حافلة، لخطر ببالك فورًا أنها تلك العربة التي تحفل بالركاب، غير أنني كنت أجد فيها كل يوم حفلًا واحتفالًا رغم الزنقة والزحمة، وكيف لا؟ وسنوات العمر حينها تحمل كل هرمونات الشباب كما تحمل الحافلة تلك النماذج العجيبة والأشكال الغريبة لشركاء الطريق.

ولكن قبل كل شيء، لا يجوز أن نغفل تفاصيل الدخول للحافلة، فما أن ترفع يدك لتومئ للسائق برغبتك، حتى تتمايل المركبة فتطرش ماء البركة التي اتخذت مكانًا بين الرصيف والشارع وتقف بمحاذاتك، يفتح معاون السائق الباب نحو الخارج ويطل بنصف جسمه النحيل، ويفسح لك المجال كي تزمط بجسدك نحو العالم الداخلي للحافلة.

عادة ومع التكرار اليومي، ستتعرف على سائقي الحافلات جميعا، وستمتلك القدرة على التنبؤ بمجرد أن تلمح المركبة من بعيد، فلكل سائق طريقته في الوقوف عند المواقف وزمنه الشخصي ولكل واحد منهم أسلوبه  في القيادة، وامتلاكك لهذه القدرة سيفيدك دون أدنى شك في اتخاذ قرارك بإيقاف الحافلة أو انتظار أخرى، فالسائق الطيب يمكن المناورة معه حين ستصل لوجهتك، ولن يرمي بك بعيدًا عن المكان الذي تريد الترجل عنده بل سيحاول جاهدًا أن يحقق مبتغاك، أما بعض السائقين فستلجأ معهم للحيلة، وقد يصل الأمر بك لأن اطلب النزل قبل موقفك المخصص بمسافة كبيرة لعلمك بأنه سيشط ويمط قبل أن يقف ويسمح لك بالغادرة لاعنًا الساعة التي رأيته بها، سيما لو كنت متأخرًا عن دوامك.

حدث ذات يوم، ثم حدث ذات يوم، ثم تكررت كثيرًا هذه الحادثة في أيام كثيرة، أن جمع السائق أجرة الركاب ثم اكتشف بأن أحدهم لم يدفع!

يطلب السائق من ذلك المجهول أن يدفع الأجر موجها كلامه للجميع، ثم يكرر طلبه حين لا يرد أحد، ثم يعلي صوته وتبدأ سلسلة طويلة من اللعنات على لسانه، لعنات تطال المهنة، وتطال العمر، وتطال البلد كله، وتطال الشعب، وتطال الزمن، وربما تطال القانون، لكنه يبقى حريصًا جدًا على ألا تتجاوز شتائمه سقفًا محددًا يتعلق بما تتيح له السياسة الأمنية الوطنية.

لم يحدث أبدًا أن اعترف أحد ما بأنه هو الشخص الذي لم يدفع الأجر، وهكذا فغالبًا يختار السائق شخصًا ما ويوجه له ملامه مبطنًا حتى ينزل ذلك المعني من الحافلة فتصبح الشتيمة واضحة لا لبس فيها.

ذلك ما حدا بأغلب السائقين لأن يعينوا معاونًا، جابيًا، كي يوفر عليهم "هز البدن" الصباحي، وعلى الأغلب يكون المعاون من ذوي السائق، ابنًا أو أخًا أو قريبًا.

وبالإضافة لما سيأخذه من أجرة يومية، سيحصل على امتيازات شتى، كالجلوس على الموتور الذي يتوسط مقدمة الحافلة بجانب السائق وعلى تماس مباشر بمقعد ثلاثي يقابل كرسي "الشوفير"، هذا المقعد الذي يبقى فارغًا بحسب الأوامر التي يصدرها المعاون للصاعدين حتى تصعد فتاة أو فتيات، فيتبرع لهن به.

كما أنه يستطيع التكلم بصوت عال، والالتفات للوراء كما يريد، والتحرك بحسب رغبته في المجال الحركي المتاح، ماسكًا بالأوراق النقدية بمهارة المتمرس ومسامحًا من يريد بالأجرة لو اقتضت الضرورة وعدم توفر العملة المعدنية الضرورية لتنسيق الدفع والإرجاع.

المعاون سيغدو أيضًا حارس البنات، فعيناه تغدوان كعيني الصقر حين تصعد الفتيات ويتخذن أماكنهن، فهو يراقب كل رمشة عين يرمشها مراهق أو معجب أو متلهف، ولن يجد غضاضة في تنبيهه لو اقتضى الأمر.

وحتى حين تعتقد بأنه غافل عنك، فقد تُفاجأ بأنه يرصدك من خلال المرايا التي لا تعد ولا تحصى المنتشرة في زوايا الحافلة المختلفة، العليا والسفلى وقرب الشبابيك والتي تتركز بشدة أمام وبجانب السائق، مقعرة ومستوية وضيقة وواسعة.

كانت الحافلات أشبه بالأفراس التي زينت للاحتفالات، فالعناقيد الملونة، والخرز المشكوك في لوحات الآيات القرآنية، والصور الشخصية لأفراد العائلة ولاعبي كرة القدم المحليين، والحجاب المعلق وراء المرآة الكبيرة الأساسية، وغير ذلك مما لا يخطر لك على بال، علقت جميعها على السقف والجدران، لتتراقص طيلة الطريق.

غير أن ذوي المزاج العالي من سائق الحافلات وعاشقي المهنة، وهم قلة قليلة، كانوا قد استطاعوا الحصول على تلفاز صغير جدًا، وتركيبه في مكان يسمح للسائق بالتمتع بالمشاهدة، وخاصة حين كانت تنقل مباراة كروية هامة عبر الأثير.

هل تعلم يا سيدي القارئ بأن ذلك التلفاز كان أمنية حقيقة وحلمًا لكل مراهق يصعد في الحافلة؟

لطالما تمنيت أن أنام غامرًا ذلك التلفاز بغطاء ومقربا إياه مني، وقد يصعب علي الآن الشرح لهذا الجيل الذي كبر وأمامه شاشات اللمس والآيباد وخلافه.

إذا كنت قد قررت التحدث عن الحافلات، فكيف ستوقع من ذاكرتك تلك النماذج التي لابد وأن يكون كلنا قد صدفها يوما هناك:

المرأة المسنة الطيبة، الممتلئة حنانًا وحنية، التي تدعو بالخير للداخل والخارج دون أن تعرفه مسبقًا.

الرجل الصاخب ذو الصوت العالي، الذي يتحدث دون مبالاة كأنه في بيته.

الصبية التي تتقلص على نفسها في مساحة سنتيمترين فقط حين يجلس قربها شخص غريب.

المتدين الممتعض الذي يحوقل ويبسمل كلما حانت منه التفاتة نحو يمين أو يسار.

المتحمس الشهم الذي يدفع عن زملائه وأصحابه وحتى من ركب قبله أو بعده.

الأزعر الذي يتنقل من مقعد لمقعد كأن أحدًا لم ينتبه لسلوكه المشين.

البردان دومًا، الذي يغلق كل شباك تصل له يده، وكل شباك يصل له غيره.

والساهي الشارد الذي يصحو بعد أن يتجاوز الموقف المطلوب بزمن بعيد.

وأنت

وأنا..

 

اقرأ/ي أيضًا:

رشوة عابرة للقارات

تحت سماء العفاريت