01-مارس-2017

عبد الناصر غارم/ السعودية

كنت مصرًا علي إيجادها

أدلف إلى حجرتي القديمة ببيت العائلة غير مبال بنداءات أمي، أشعل مصباح النيون، لم تتغير كثيرًا، فلا يزال مكتبي الخشبي قابع كما هو في مواجهة النافذة ووأمامه يستقر الكرسي الخيزران، ومكتبتي الكبيرة كما هي مكدسة بالكتب تملأ الحائط المواجه لباب الحجرة.

اعتدت ترتيب الكتب بها وفقًا للتخصص أو الكاتب أو السلاسل، تذكرت كم من الجهد كنت أبذل في فهرستها مع كل كتاب جديد أضيفه إليها، أو في كل مرة أقرر التخلص من بعض مابها من كتب مع كل طفرة نوعية في الوعي.

دولاب بسيط من ضلفتين وفي مواجهته فراش يتوسط الحجرة مصنوع من خشب تعلوه ملاءة نظيفة تم الاعتناء بها. اعتنت والدتي بالحجرة جيدًا، وكأنما لا زلت حاضرًا فلا تراب يعلوا الدولاب أو المكتب أو المكتبة، رغم ابتعادي عنها لفترة طويلة. أبدأ البحث عنها بين الكتب المتراصة بالمكتبة، قد تكون في أحد أدراج المكتب أو حتى في قاع الدولاب.

قصتي الأولى هي الأجمل.
أهتف بصديقي بانفعال فيعلق باسمًا.

وهل غائب اللذات مثل الحاضر؟
قد تكون في صندوق جدتي القديم، أنحني علي إحدى ركبتي وأرفع الملاءة لأنظر في الفراغ أسفل السرير باحثا عنه، بعض الكراتين القديمة المهملة إلي اليمين منها يبدو أحد جوانبه.

إنه صندوق الأماني يا خالد سقى جدك رحمه الله جدرانه الخشبية العتيقة بماء يئر زمزم المباركة

أجذبه إلي بأطراف أصابعي وأجلس على طرف الفراش، أحمله فو ق فخذي في عناية، كانت جدتي قد أهدته لي قبل وفاتها بأسبوعين وأوصتني بالحفاظ عليه، تتحسس أصابعي جدرانه الخشبية العتيقة الباردة وقد تشقق لونها البني ولكن الزمن لم ينجح في إفقاده لمعته.

أزيل الأتربة الزمنية المتراكمة عن غطائه وأفتحه، فتزكم أنفي تلك الرائحة المميزة لتخزين الأوراق لفترة طويلة مخلوط برائحة ماء الورد النابع من قنينة لا زالت داخله، أبعد وجهي لفترة حتى تخف كثافة الرائحة، أتأمل كراكيب الكتب والأوراق المحشورة داخلها والتي تدفعني عبر ركام ذاكرتي المشوشة والمنسية، آلة زمنية صغيرة ترحل بي إلى ماض حميم.

أبدأ في البحث، بعض الأوراق البيضاء والملون قد تكون مشروع بحث لأحد معلمي المدرسة الإعدادية بالمدينة، شهادة استثمار بقيمة الستين جنيهًا أتذكر الفوز بها في إحدى المسابقات، تتراءى لي وجوه خفتت إضاءتها وتآكلت ملامحها لعشرات الأصدقاء الذين ساهموا في تشكيل وعيي وشاركوني مغامراتي.

كيس بلاستيكي شفاف، أفتحه علي أجد به ما أبحث عنه، فتطالعني العديد من قصص المراهقة الرومانسية والبوليسية والمصورة التي رفضت التخلص منها كعادتي مع الكتب الأخرى، بتقدم الوعي والسن. كم كنت أعاني لشرائها! أحوش من مصروفي بالأسبوع والاثنين، لأقف في النهاية أمام كشك الجرائد واشتريها طازجة، وعادة ما كنت أقرأ نصفها في طريق العودة للمنزل.

العديد من الكتب والمجلات تجذبني عبر طرقها المنحوتة في ذاكرتي نحو سطورها الأولى، كومة من الصور للعديد من الفنانين والفنانات التي كثيرًا ما زارتني وجوهها وأجسادها في أحلامي وسط أحرف الكلمات، أو أفيشات السينما.

قصيدة حب بخط طفولي ركيك تنعي حب لم يكتمل، وتبعث بتنهيداتها الحارة علي أضواء القمر الفضية ترتعش لها عضلة قلبي.

كم حزنت لرحيلها
أتحسس خدي الأيسر حيث زرعت أولى وآخر قبلاتها

لماذا رفضت إعطائي صورتها رغم اطلاعي إياها علي مكنون صدري.. مكنون صندوقي.. قصتي الأولى؟!
تتملكني مشاعر متضاربة، أبدأ في إعادة الحاجيات إلى الصندوق وقد يئست من إيجادها، ألمح قطعة مستطيلة سميكة من الورق ملتصقة بقاع الصندوق، يعتريني خوف غير المفهوم بينما أمد أصابعي إليها لتخليصها من القاع فتنفصل في نعومة.

بحبك.. هتوحشني
أدير الورقة فتنساب ملامحها لتملأ فجوات الذاكرة.

 

اقرأ/ ي أيضًا:

لا أرض لنقف عليها

البلاد ذات الظل الطويل