18-سبتمبر-2019

نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف (ألترا صوت)

للإجابة على هذا السؤال لا بُّد أن نبدأ بسؤالٍ يفرض نفسه هو: هل يمكن صياغة تعريف واضح للرواية؟ الرواية عمومًا، وبحسب الناقد وعالم اللغة الروسي ميخائيل باختين هي جنس أدبي غير مستقر، على العكس من الملحمة والأسطورة التي استقر شكلها النهائي وعُرفت خصائصها، وقد يكون من الصعب صياغة تعريف نهائي للرواية، لأنها مرّت على طول تاريخها بتبدلات وتغيرات في المضمون والشكل.

تؤكد الحداثة الروائية أهمية الرواية كنوع أدبي مُكرس، لأنها تساهم بشكلٍ جوهري في تشكيل عالمنا

وعليه قد تبدو في الأمر مضيعة للوقت، تؤدي من دون شك إلى اختزال وتنميط هذا النوع الأدبي، لكن لمحاولة الوقوف عند مفاصل هامة تقوم عليها الروايات، باعتبارها من أكثر الأنواع الأدبية شعبية وأكثرها شهرةً وجذبًا للقراء على اختلاف وتنوع ثقافتهم واهتمامهم، ولضرورة الخوض في سؤال هل على الرواية تقفي أحداث الواقع وتتبعه؟ سننظر في بعض الأقاويل التي جاءت من قبل مفكرين ونقاد عالجوا هذه الإشكالية، عبر تعريف محاكاة الواقع.

المحاكاة الأدبية تمر عبر اللغة

يرى الشكلانيون الروس أن النص عبارة عن دلالات لسانية محضة، أمّا المدرسة البنيوية التكوينية فتنظر إلى النص من خلال دلالاته السوسيولوجية، وتؤكد على ارتباطه بالمجتمع وضرورة التعبير عنه. وعليه فالرواية وفقًا لذلك هي خطاب، وبالتالي هي لغة تحمل دلالات إيديولوجية، والخطاب كظاهرة إيديولوجية يعكس التغييرات، ولذلك لا داعي لمقابلة الرواية بالواقع، لأن الواقع حاضر في الرواية على المستوى اللغوي، فالنص لا ينفصل عن الواقع الذي أنتجه بل يعبر عنه عبر أداة هي اللغة.

اقرأ/ي أيضًا: حوار|زين العابدين الضبيبي: الشعر رسالة.. ومهنة إذا لزم الأمر

عند اللغة سنقف قليلًا لاستحضار كلام الناقد وعالم السرديات الفرنسي جيرار جينيت، في ما يخص المحاكاة الأدبية للواقع وتفسيره للعلاقة بين الأدب والواقع. يؤكد جينيت ما مفاده أن المحاكاة الأدبية تتحقق عبر الكلام وتتجلى بوسائل كلامية تتجسد عن طريق السرد. ومن يقوم بهذه المهمة هو الراوي الذي تتعدد مهامه ومواقعه في نسيج النص، يأخذ دور المشاهد ويروي لنا الأحداث، ويعرض تلك الشخصيات وهي في حالة فعل، أو يتقمص دور واحدة من شخصيات الرواية. إذًا قياسًا على كلام جينيت محاكاة الواقع في الرواية عملية لغوية بحتة. تعبر اللغة عن الواقع بوسائل كلامية، لذلك ما من محاكاة كاملة للواقع إنما ما نقرأه هو محاكاة لغوية، ولا يمكن للغة مهما كانت قوية أن تنقل الواقع كما هو.

هذا الكلام يوصلنا إلى السؤال الآتي: هل يجب أن أرى الواقع الذي أعرفه عندما أقرأ عملًا أدبيًا؟ بحسب ما سبق لا يمكن توقع وانتظار ما نعرفه عند قراءة الروايات، وإلاّ فلماذا يكتب الكُتّاب إذا كانت الكتابة بهدف رؤية الواقع فيما يكتبونه؟ هل الغرض أن نوافق بعضنا البعض على ما نعرفه مسبقًا، ونعيد سرده باستخدام اللغة مرة أخرى؟ أم أنه من المجدي ملاحظة الكيفية التي تمت بها محاكاة ذلك الواقع، وكيف تؤثر اللغة في إعادة تمثيله؟

القراءة فاعلية سوسيولوجية

مجموعة الأسئلة المطروحة سابقًا، تدفعنا إلى التفكير بمهمة الكتابة وأدواتها، والتفكير بالأدب كعملية أدبية، ووضع التعاطف والتأثر جانبًا لبناء ذهنية نقدية على اختلاف الغرض الذي نقرأ من أجله. من خلال التساؤل حول جملة من المعايير: كيف عبرت اللغة عن الواقع، هل استلزم التعبير أدوات خاصة؟ وما الذي يدفعنا لقراءة الروايات؟ هل يتغير العالم من جراء قراءة رواية؟

تؤكد الحداثة الروائية أهمية الرواية كنوع أدبي مُكرس، لأنها تساهم بشكلٍ جوهري في تشكيل عالمنا، وهذا يعود إلى أن القارئ إذا ما قرأ رواية ما على نحوٍ جيد، ستتغير رؤيته للعالم، فالأدب هو أداة للتفكير ملتصقة بما نحن عليه في الحياة. الأدب هو الطريقة أو الكيفية التي تجعل شخصياتنا واضحة ومفهومة لنا، فهي ترينا انعكاسات لأنفسنا في الزمان والمكان الذي نعيش به. بعض الروايات الحداثية والمعاصرة تنشغل بطرح أسئلة حول الأنا والهوية، وهذه الأسئلة تصبح محسوسة من خلال عملية التفكير التي نقوم بها خلال القراءة. بعيدًا عن العبارة الشهيرة التي نستخدمها بكثرة للتعبير عن أعمال تعجبنا وهي "واقعي جدًا، وصّف الأحداث وكأننا نراها" وتعبيرات أخرى من شأنها تنميط عمل الكُتاب وحصر مهمة الكتابة الأدبية بنسخ أحداث من الواقع وتقديمها للقارئ، وهذا عكس مهمة الأدباء الذين يقع على عاتقهم التعبير عن الواقع إلى جمهور يقرأ، وتدفعه القراءة للتفكير بالواقع لإحداث الأثر والتغيير، وليس للتلصص أو المراقبة وحفظ أحداث من فترات وحقب.

للتأكيد على هذا الكلام لابُّد أن نتطرق إلى الأعمال الروائية الكبرى، فنتسأل مثلًا هل كتب ستاندال روايته الأحمر والأسود ليجعلنا نتتبع خطى الشاب جوليان سورال في ظروف حياته وكل التغييرات والانقلابات التي جرت معه؟ أم إنّ جوليان هو روح عصر الثورة الفرنسية التي تختزل صراعات اجتماعية ودينية وسياسية. وفي السياق عينه هل كتب دوستويفسكي الجريمة والعقاب لنقف عند مخاوف قاتل وللإجابة عن سؤال لماذا قتل؟ أم لأن الصراع النفسي والأخلاقي لراسكولينكوف يختصر معادلات الحياة والفقر التي يعيشها الناس في روسيا منتصف القرن التاسع عشر، وبنفس الوقت تلك التأملات نابعة من شخصية الكاتب الذي كان مديونًا للمرابين في ذلك الوقت، على زعم بعض المصادر؟

أمامنا أمثلة حيّة أخرى من العالم العربي مثل ثلاثية نجيب محفوظ، ومدن الملح لعبد الرحمن منيف، وروايات الكاتب اللبناني إلياس خوري، ونماذج لا يُحصى عددها من الأعمال التي يمكن قراءتها وإعادة قراءتها على الدوام.

هل كتب دوستويفسكي "الجريمة والعقاب" لنقف عند مخاوف قاتل وللإجابة عن سؤال لماذا قتل

إذًا هل على الرواية نسخ صورة الواقع؟ وهل علينا كقراء أن نسأل على الدوام عن الواقعي فيما نقرأ؟ وهل أصلًا الانشغال بتقفي أثر الراهن والحقيقي هو العمل المرجو من الأعمال الأدبية؟ بناءً على ما سبق يمكننا أن نقول: إن الرواية هي لعبة ذهنية تخيلية بصرف النظر عن جنسها ونوعها الأدبي وتقنياتها السردية، فالتخييل هو السمة الجوهرية التي تعطي للنص الروائي ميزته، والرواية كشكل أدبي هي على الدوام مسكونة بالنزعة الواقعية.

اقرأ/ي أيضًا: أبحاث مصرية رائدة في الأدب الشعبي

الطريقة التي يتم من خلال إعادة تمثيل الواقع عبر اللغة، من شأنها بناء علاقة بين الكاتب والقارئ، وبالتالي خلق المشاركة التي يطمح إليها الكُتاب، عوضًا عن اختصار الفعل بالتأثير والاندهاش الزائل بفعل الوقت، فقد ننسى الكثير مما قرأناه والذي كان بغية التسلية وملء الفراغ، على أهمية هذا الفعل، إلاّ أن ما نحفظه هو ما يصدمنا ويدفعنا للتفكير بالأدوات التي قُدِم بها النص والمضامين التي يحتويها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة وليد غالب

حكايات طغاة العصور يرويها صلاح عيسى