17-يناير-2017

اشتباكات عنيف في مدينة وهران غرب العاصمة الجزائرية (Getty)

كثيرًا ما نتحدّث عن أزمات الطّعام والشّراب وما جاورها من أزماتٍ، ونعمل على التعاطي معها بجدية واضحة. انظروا كيف أنّ الشّارع جعل من غلاء الزّيت والسّكر سببًا للانتفاض، وكيف أنّ الحكومة حكمَها الرعبُ من ذلك، فراحت تجامل في الخطاب وتجمّله، لكننا لا ننتبه أصلًا، وإذا انتبهنا فلا نتحرك حتى بوتيرة السّلحفاة، إلى أزمات معنوية تمسّ الإنسان فينا، ومنه فهي أخطر، في نظر العقلاء.

يبدو أن الحديث عن العقل في الجزائر، بات يزعج الشارع والحكومة معًا، فالحكومة تقرّر وتنفذ خارج العقل، والشّارع يحتج خارج العقل، والنتيجة أن السّؤال الذي طرحه الرئيس المغتال محمد بوضياف مباشرة بعد الاستقلال: "الجزائر إلى أين؟"، لم يفقد دواعي طرحه بعد نصف قرن من الاستقلال.

الحديث عن العقل في الجزائر، بات يزعج الشارع والحكومة معًا، فالحكومة تقرّر وتنفذ خارج العقل، والشّارع يحتج خارج العقل

هل ندرك ما معنى أن يبقى سؤال ما قابلًا لأن يُطرح خمسة عقود كاملة؟ طبعًا لا ندرك، لأننا لو كنا ندرك لما وصلنا إلى لحظة نحرق فيها بيت العقل/المدرسة احتجاجًا على جوع البطن، أم ترانا ندرك ولا نريد أن ندرك أننا ندرك حتى لا نتحمل المسؤولية التاريخية أمام أنفسنا وأمام الآخرين؟

اقرأ/ي أيضًا: احتجاجات في الجزائر.. غليان المواطن وخطر الفوضى

كنا نراهم يفضّلون السّيجارة على حبّة الحلوى ولم نتحرك (لا أقصد بالتحرك هنا الحلّ الأمني)، نراهم يشترون الولاعة بدل القلم ولم نتحرك، نراهم يتشاجرون بعنف في البيوت والشوارع ولم نتحرك، بل إننا بتنا نرى ونقرأ أن التلميذَ بات يقتل التلميذ والطالبَ الجامعي يقتل أستاذه في قاعات الدراسة ولم نتحرك، نراهم يتسربون بالآلاف من المدارس ولم نتحرك.

هل لاحظتم حساسية التلميذ الجزائري اليوم من المئزر؟ لقد بات يلبسه عند مدخل المدرسة وينزعه عنده كأنه تهمة ولم نتحرك، نراهم يرشقون القطارات بالحجارة السمينة غير مبالين بأن يعوّقوا أو يقتلوا نفسًا ولم نتحرك، يترصدون للخلق في الزوايا ليسلبوا منهم هواتفهم وأموالهم حتى بات الواحد منا يزهد في أن يشتري هاتفًا راقيًا لعلمه المسبق بأنه سيُسرق منه ولم نتحرك.

بل إننا كنا نسمع ونرى ونعايش أنهم قد يقتلون من أجل هاتف نقال لا يساوي سروالًا ولم نتحرك، نراهم يهتكون حرمة المساجد بالسّرقات المعروفة وغير المعروفة ولم نتحرك، يسبّون في الشوارع ويشربون في الأماكن العامة ولم نتحرك، يتسترون بالمناصرة الرياضية فيفعلون ما يفعلون ولم نتحرك.

إن منظوماتنا جميعها لم تفعل ما يجب أن تفعله، ولم تنسق فيما بينها في واجباتها، بل إنها لا تملك ثقافة التنسيق أصلًا حتى -يحق- لها أن تستنكر التخريب الذي وقع. تصوّروا أن مؤسسة تابعة لوزرة الثقافة مثل دار الثقافة وأخرى تابعة لوزارة الشبيبة والرياضة مثل دار الشباب وأخرى تابعة لوزارة الشؤون الدينية مثل المسجد وأخرى تابعة لوزارة التكوين المهني وأخرى لوزارة التعليم العالي لا يلتقي القائمون عليها إلا في مكاتب البريد، ليتقاضوا رواتبهم ويتبادلوا النكت البائتة.

اقرأ/ي أيضًا: صلاح باديس.. أخيرًا للجزائر العاصمة شعرها

شخصيًا بتّ أميل إلى جدوى غلق دور الشباب ودور الثقافة فعلى الأقل نوفر بعض المال للخزينة العامة، إذ كيف يُعقل أن مركزًا للشباب لا يتوفر على نفساني واحد؟ وأن مكتبته لم تحَيّن منذ رحيل هواري بومدين ربي يَرْحْمُو، لا محاضرات قريبة من اهتمام الشاب واحتياجاته الفكرية والنفسية، كل ما هنالك تكوين في الطرز للفتيات، وقاعة لكمال الأجسام للفتيان، كأننا نقول لهم: ضخموا أجسامكم لتخربوا بشكل جيد.

العنف الذي بات يسكن نفسية وعقلية وقاموس شريحة كبيرة من شباب الجزائر اليوم هو ثمرة طبيعية للإهمال والارتجال

ما أردت أن أقوله هو أن هذا العنف الذي بات يسكن نفسية وعقلية وقاموس شريحة كبيرة من شبابنا اليوم هو ثمرة طبيعية للإهمال والارتجال، إذ لم نتحرك حيث يجب أن نتحرك، ونحن مقبلون على نوع من العنف من الصعب التحكم فيه مثلما تحكمنا في عنف الجبال لكونه معزولًا، هذا العنف ليس معزولًا، إنه يسكن بيننا ومعنا ويقاسمنا الملعقة والفنجان والكرسي والفراش، وهو إن لم يقض على الحياة فهو يعكّرها، وما يؤسف له أن جرعة الإدراك عندنا لم ترقَ إلى المستوى المطلوب.

كنت ألتهم كتابًا كما يفعل مسجون مع امرأة بعد خروجه. لا تلوموني على هذا التشبيه، فأزمتنا أننا لم نجعل شبابنا يتعاملون مع القراءة والعلم بشهوة، لذلك لا ننتظر منهم أن يتظاهروا وهم يحملون الورود والشموع، خرجتْ أمي إلى الشرفة فعادت مذعورة: إنهم يخرّبون المدرسة، واصلتُ القراءة لأنني لم أشأ أن أرى ما رأتْ، عادت: إنهم يخرّبون الحي الجامعي للبنات، إنهم يحرقون البريد، وكانت كلما عادت حاملة خبر حريق ما كلما أحسست بأن النار قريبة من فراشي فيزيد خوفي.

هل هذا ما يحس به المسؤولون عندنا في ظل الاحتجاجات؟ يحسون بالنار تقترب من كراسيهم، المشكل عندنا أن معظم المسؤولين عندنا لا يتحركون إلا ليحموا مناصبهم وأنصبتهم لا مستقبل الأمة، وهذا ما يفسر كوننا لم نخرج من سياسة الترقيع.



اقرأ/ي أيضًا:

احتفالات رأس السنة الأمازيغية.. طقوس تاريخ معتّق

مسكِّنات على مدار 17 سنة