13-يناير-2017

(Getty) في شوارع قرية جزائرية

كنت قبل أيام في القرية، وكانت أيامًا جديرة بأن تسمّى أيامًا، إنه عناق الاخضرار والبياض يدغدغها من كل الجنبات، فتوغل في الضّحك والمسرّة. هناك يضحك النّاس من الأعماق رغم أن ظروفهم المادية ليست مريحة، بعض الأسر لا تملك دخلًا أصًلا، إلا أنك تستطيع أن تقرأ السّعادة في الملامح والعيون. الشكوى مكبوتة، لا تظهر إلا نادرًا، لعلي كنت أكثرهم شكاة وهم يسألونني عن أحوالي.

في الريف، يضحك النّاس من الأعماق رغم أن ظروفهم المادية ليست مريحة

شكوت لهم من إسمنت المدينة، وقد تعدّت برودته إلى العلاقات والعواطف والسلوك والأفكار، فكانوا يحمدون الله على أنهم لم يغادروا إليها حتى في عزّ الخوف زمن الإرهاب، هل كنت أشكو حتى أفرغ ما في قلبي أم لأعزّيهم؟

اقرأ/ي أيضًا: إنهم يتثاءَبون كثيرًا!

لم أدْرِ هل أفرح أم أحزن لهذه الإضافات التي مسّت القرية الجزائرية، فجعلتها مختلفة عن السّابق. لقد حلّت البناءات الإسمنتية مكان بناءات الحجر والقرميد، في إطار دعم الدولة للبناء الرّيفي، وحلّ الطريق المزفّت مكان الطريق الترابي الذي كان يصلها بأقرب المدن إليها، وشُجّرَتْ معظم الأراضي بأشجار الزيتون والتفاح في إطار الدعم الفلاحي، فباع الناس قطعانهم، لقد بات عليك أن تبذل جهدًا معتبرًا حتى تجد سمنًا أو لبنًا، وقد كانا في السّابق متوفرين في كل بيت. وحلّت الجرّارات الجديدة مكان حيوانات الحرث والدّرس، وهي كلها تقاليدُ جديدة شرعت تُريح السّكان من جهةٍ، وتقضي على بعض طقوسهم القديمة التي كانت تمنح لقريتهم هويةً خاصةً من جهة مقابلة.

لقد فتّشت عن طقوس الختان والزّواج والحرث والحصاد والنسيج، وما إليها من الطقوس، فلم أجد إلا حشرجاتٍ منها توحي بأنها في طريق الزّوال، كما لاحظت أن سلطة أعيان العرش بدأت تذبل أمام إرادة الشبّان في التعبير عن  أنفسهم، حتى أن أعراس القرية باتت مشبّبة لا شيوخ فيها، بالتالي فقد حلّ الغناء المسجّل مكان الغناء والرقص الحيّين اللذين كانا يمنحان المناسبة روحًا تسعد الرّوح.

لم تكن القرية تتوفر، قبل عشر سنوات، إلا على مدرسة ابتدائية يلتحق من ينال شهادتها من تلامذتها بالنظام الداخلي في المدن المجاورة ليواصل دراسته، أما اليوم فقد باتت تتوفر على متوسطة وثانوية. وقفت قليلًا على بابيهما متأملًا سلوك ومظهر تلميذهما، فقلت في نفسي، وقد قارنته بجيلي: سبحان مغيّر المآزر.

ترى هل يفرح أم يحزن لكل تلك الإضافات التي مسّت القرية الجزائرية؟

اقرأ/ي أيضًا: بيان الكنيسة: هل يصفّق الأقباط للرئيس؟!

كنا بداية التسعينيات نقطع عشرات الكيلومترات، حتى نصل إلى المدينة، فنلتحق بالنظام الدّاخلي، حيث نمكث هناك حتى نهاية الأسبوع، وإذا حدث أن تعطلت الحافلة الوحيدة فإننا كنا نضطرّ لأن نقطع المسافة راجلين. أذكر أننا في عام 1994 خرجنا مرة من النظام الداخلي مساء الخميس، فوجدنا الطريق المؤدي إلى القرية مقطوعًا، بسبب انجراف التربة فلم يكن أمامنا إلا أن نشمّر على عزائمنا ونخوض في الطريق، الجوع والبرد والمسافة الطويلة جدًا والخوف من الإرهاب المعشش في الجنبات. وصلنا إلى القرية قبيل انتصاف الليل، فانفجر بعضنا عويلًا، وهو يرتمي في أحضان الوالد أو الوالدة، هناك قرّرت أسر كثيرة أن تضع حدًا لتمدرس أولادها، وإحالتهم على المرعى، وهنا أجد متعة في أن أشكر الأقدار التي جعلت أبي يتراجع عن قراره بتوقيفي، بعد أسبوع من ذلك. ترى.. كيف كنت سأكون اليوم لو لم يتراجع؟



اقرأ/ي أيضًا:

سبعة أشياء لا يعرفها برلمان السيسي-عبد العال

نيران التصنيف