29-نوفمبر-2023
من فيلم نادي القطن

لقطة من فيلم The Cotton Club

سُئل المخرج الصربي أمير كوستاريستا في أحد المؤتمرات الصحفية عن سبب اختياره النجم الأرجنتيني دييغوا ماردونا موضوعًا لفيلمه "مارادونا"، فضحك ورد مازحًا: "من المؤكد أنني لن أصنع فيلمًا عن رونالدو".

ألمح كوستاريستا في إجابته هذه إلى أن السينما هي ميدان الفرادة وشهوة إلى الاستثنائي والمختلف والنوعي. إنها الرغبة في اختيار حكاية من عدة طبقات، فليس الأمر منوطًا فقط بسرد الحكايات وإنما بما تختزنه الحكايات من مشاعر وفلسفة وحياة. وهذا بالضبط ما يجعل من السينما بوابة سحرية تؤسطر دومًا أي شي يمر عبرها. فالرياضة والموسيقى والعلوم وغيرها، تبقى تخصصات منفردة غامضة ومبهمة قبل أن تعبر أرض السينما السحرية التي تمدها بالحياة اللازمة، وتجعل من كواليسها ميدانًا للفرجة يثير اهتمام الجميع وليس أصحاب التخصص فقط.

شكّلت موسيقى الجاز إلهامًا حقيقيًا لحركات الحقوق المدنية المناهضة للعنصرية، والمناضلة في سبيل حرية السود

ومن الطبيعي أن يجيب سينمائي بوزن كوستاريستا بطرافة ساخرة على الصحفي بل ويؤنبه أيضًا لضعف إدراكه لقوة السينما وسحرها وفرادة اختياراتها. فثمة كيمياء للأشخاص والمواضيع تجعل منها سينمائية بالضرورة، بل وتلفت نظر الضوء واللون إليها. ومن المؤكد أن ماردونا أكثر من مجرد لاعب كرة قدم، وإلا لما استطاع أن يجذب اللون والضوء ويصير حكاية سينمائية تؤثر بمحبي كرة القدم وبكارهيها على حد سواء.

ينطبق ما سبق أيضًا على الموسيقى، فليست أي موسيقى وليست كل موسيقى تحتمل أن تصير حكاية سينمائية، إذ هناك مئات إن لم نقل آلاف الاتجاهات والأنماط الموسيقية، بيد أن هناك عدة أنواع محددة تنجذب إليها السينما وتحاول إعادة تعريفها بالضوء واللون؛ موسيقى فيها ما يكفي من الحياة والصراعات والفلسفة والشعر، بحيث تكون جديرة بالسينما، وتكون السينما جديرة بها.

وربما لا يضاهي موسيقى الجاز في هذا المضمار السينمائي سوى موسيقى الروك أند رول. وإذا كان ما يدفع السينما لإنتاج عشرات الأفلام عن فرق الروك أند رول هو تكريس أسلوب حياة الروك، فإن ما يغري في موسيقى الجاز هو أنها تنطوي على قصة نضال واحتجاج سياسي مصاغ بعذوبة وألم.

كما أنها، بلا ريب، أقرب إلى وثيقة تاريخية تروي من خلال سرد سرد مراحل تطورها، قصة اختراقها لمجتمع البيض في أمريكا والاضطهاد الذي عانى منه السود بهدف تمكين ذواتهم وإيقاظ وعيهم تجاه حقوقهم أولًا، ولدفع البيض إلى مراجعة ذاتية خالصة وإعادة التفكير بعبثية نظام الفصل العنصري، ثانيًا.

فالجاز كان أداة هدّامة متعددة الرؤوس تعمل من الداخل إلى الخارج، وتكسر في تقدّمها صلابة التقاليد الموسيقية بصورتها الثقافية والهوياتية، وتفسح المجال لظهور هويات ثقافية مقبولة عبر الموسيقى. وهي بذلك فعل سياسي وفعل ملهم أيضًا بتحولها إلى هوية لمجتمعات السود يحاججون بها ويستندون عليها لتعريف أنفسهم كمواطنين عاديين لا مواطنيين من الدرجة الثانية. مواطنون لهم الحق بكامل المواطنة، ويعتزون بثقافتهم الخاصة.

والجاز ثورة اجتماعية اخترقت مجتمعات البيض وفرضت مزاجها الفني المتراكب مع السمات الثقافية، ولم تجد تلك المجتمعات من بد سوى احترامه وقبوله لما فيه من قوة وبراعة ودفء ومهارة، يجعل من المستحيل تجاهله أو التقليل من شأنه.

وبعد تمدد موسيقى الجاز  الاجتماعي والفني وسط مجتمعات البيض، صارت تشكل إلهامًا حقيقًيا لحركة الحقوق المدنية المناهضة للعنصرية، والمناضلة في سبيل حرية السود. بل يروي بعض المراقبين والمحللين الاجتماعيين والتاريخيين السياسيين أن الأهمية التي حظيت بها هذه الموسيقى، شكّلت لحظة انعطاف تاريخية في بروز الحركات الاحتجاجية وحركات الحقوق المدنية، وبأن تلك الحركات بدأت بالثقافة والفن قبل أن تتحول إلى السياسة. واستمر التزام الثقافي الهوياتي بالسياسي حتى سقوط نظام الفصل العنصري.

لقد استطاعت الموسيقى كمنطلق تحشيد التعاطف والتقبل وإعادة التفكير والولوج إلى عقول وقلوب الأمريكيين، قبل أن تثير قضايا السود النقاش الاجتماعي العام. فلا عجب أن تجد السينما بتلك الموسيقى مخزونًا عظيمًا أضاف للذاكرة السينمائية العالمية أيقونات لا تنسى ولن تمحى.

وقد عززت أفلام الجاز الانحياز نحو سينما القضية وظهور تيار يرغب بسرد الحكاية السياسية والتاريخية بطريقة مختلفة وعميقة تكشف المجتمعات والصراعات، عبر مزامنة تطورها الثقافي والفني إلى جانب التغييرات التي تترتب على ذلك التطور الذي يطرأ على الحياة السياسية والاجتماعية معًا.

يؤكد ما سبق الأغراء غير المنقطع والمستدام في العودة إلى عالم الجاز لصناعة الحكايا التاريخية التي منحت الولايات المتحدة الأمريكية صورتها المعاصرة، وإعادة إثارة الأسئلة السياسية الصعبة والإجابة عنها من خلال ذلك العالم الدافئ الصاخب، الذي يمتلك التأثير الخاطف والسريع وشديد التأثير.

في هذه المقالة قائمة بـ3 أفلام عن الجاز تحلّق في عوالم هذه الموسيقى، وتقدم تصورات ذات معايير مرتفعة جدًا تُعتبر، حتى يومنا هذا، نماذج لكل من يود صناعة فيلم يتطرق إلى عالم موسيقى الجاز، من خلال الضوء والصورة والأزياء والصوت.

ولا بد من القول إن هذه السينما تحتاج فهمًا حسيًا وإيقاعيًا لصناعة صورة سينمائية تنتمي إلى ذلك العالم المركب. وبينما نجح بعضهم في لمس روح الجاز في أفلامه، فإن البعض الآخر فشل في الوصول إلى تلك المساحات المستترة. وسنورد في قائمتنا بعضًا من أنجح تلك الأفلام التي نجحت في بلوغ روح الجاز الذي منحها في المقابل روحًا سينمائية مختلفة.


1- Bird

يُعد فيلم السيرة الذاتية الذي عام 1988، وهو من إخراج كلينت إيستوود، نوعًا من التكريم لمسيرة الموسيقي المجدد شارلي باركر، الذي تحملُ حياته الكثير من المفارقات والدراما، إضافةً الى عبقريته الموسيقية التي أصبح بفعلها، وبعمر قصير، واحدًا من أعظم موسيقيي الجاز الذين نجحوا في خلق علاقة بين الجاز الشعبي وموسيقى الجاز التي نعرفها اليوم.

وإلى جانب تلك العبقرية، تميّز باركر بشخصية ملفتة خفيفة الظل اشتُهرت في نوادي هارلم، ونوادي الجاز المنتشرة في ولاية كنساس. وقد اشتغل الفيلم على الإضاءة على كل هذه التعقيدات التي أحاطت بحياته الشخصية والموسيقية، والبرهنة على أن ثمة علاقة حتمية تجمع بين العبقرية والموهبة، وبين تهاوي الحياة الشخصية للمبدع.

حصل الفليم على مراجعات نقدية إيجابية، وخاصةً لناحية قدرته على تصوير عوالم نوادي الجاز بشكل نوستالجي نموذجي. كما تلقى الممثل فورست ويتكر، الذي لعب دور البطولة، إشادات واسعة عن أدائه لشخصية باركر "الطير". ناهيك عن نيله جائزة "الأوسكار"  الخاصة بخلط الأصوات "مكساج".



2- Ray

يُعتبر الفيلم واحدًا من أهم التجارب السينمائية التي كان الجاز جوهرها ومحورها الأساسي. ومرةً أخرى، جرى الجمع في هذا الفيلم بين ثلاثة أنواع من الأفلام، وهي: التخصصية، والسيرة الذاتية، والفيلم الموسيقي.

يتناول الفيلم السيرة الذاتية لري تشارلز الذي يُعد أحد أهم وجوه موسيقى البلوز والجاز، حيث يستعرض محطات حياته بمختلف تقلباتها من القاع حتى القمة، ومن السقوط حتى النهوض مجددًا، أي سقوطه في هوة الإدمان على المخدرات، ثم نهوضه من جديد واستعادته لحياته مرة أخرى.

قدم جيمي فوكس في هذا الفيلم واحدًا من أروع أدائاته التمثيلية لدرجة أنه لم يكن يمثل دور ري تشارلز، بل كان هو ري نفسه، يعيشه من الداخل إلى الخارج. وقد استخدم في أدائه للشخصية أدواته الجسدية والصوتية بمهارة شديدة، فضلًا عن إدراك عميق لعالمه الداخلي وصراعاته الشخصية.

وبالطبع، نال أداء فوكس استحسان وإعجاب النقّاد والمختصين والجماهير على حد سواء، وحصد على إثره جائزة "الأوسكار" لأفضل ممثل، وكذلك الـ"غولدن غلوب" و"البافتا"، فضلًا عن جوائز أخرى موزاية في قيمتها وأهميتها. والفيلم من إخراج تايلور هاكفورد.



3- The Cotton Club

رغم الخسارة الكبيرة التي مُني بها الفيلم في شباك التذاكر، والإيرادات الهزيلة التي حققها؛ لكنه يبقى واحدًا من أهم الأفلام التي تروي قصة نشوء موسيقى الجاز. وقد يبدو من العنوان، "نادي القطن"، أن الفيلم يُعيد رسم الحياة الأمريكية في فترة العشرينات، حيث كان فضاء حقول القطن يعكس صورة أمريكا الحقيقية بوجهها الأبيض "المتسيد"، والأسود "المستعبد".

يروي الفيلم من خلال نادي الجاز الحدود الفاصلة بين مكونات المجتمع الأمريكي آنذاك. والنادي الموسيقي هنا كان أمريكا صغيرة نرى فيها أدوار كل مكون على حدة؛ الرجل الأسود المرصود لإمتاع الرجل الأبيض بالموسيقى أو بالرقص، والصراعات بين طبقات مجتمع البيض، والتنافس بين عائلات المافيا وتصفية الحسابات فيما بينها داخل النادي.

ويبقى الحلم متفوقًا على كل الصراعات متجاوزًا كل القيود والحدود. وقد تجسّد الحلم داخل الفيلم في شخصيتي ديكسي دوير التي لعبها الممثل ريتشارد جير، وصديقه الأسود ساندمان ويليامز التي لعبها جريجوري هاينز، إذ تجمع بينهما أحلام الفن والشهرة والمجد.

يحلم ويليامز بأن يصبح راقصًا في النادي، بينما يحلم دوير بأن يصير نجمًا سينمائيًا، ولكل حلم ما بين الأبيض والأسود حدوده وأفقه، فالأحلام تحددها الهوية واللون قبل السعي إليها. كل ذلك تحركه وتدفعه وتظهره موسيقى الجاز التي كانت بطلًا حقيقيًا للفيلم، وحاملًا ضبط كل تلك الفوضى والصدامات.

الفيلم من إخراج فرانسيس فورد كوبولا، ومن بطولة نيكولاس كيج، ودايان لاين.