15-مارس-2020

مكتبة كلية ترينيتي في دبلن

بالمفهوم العام للمعلم كل شيء يغدو معلمًا للمرء، إذا اعتبرنا أن الشخص أو الشيء مصدر المعلومات هو المعلم، فيدخل كل شيء في هذا المفهوم في معنى المعلم من الأم والأب وكل فرد في الأسرة صغيرًا وكبيرًا، إلى الأصدقاء والمعارف والزملاء، إلى الطبيعة وحيواناتها وأشيائها، وإلى الحاسوب والإنترنت، والكتاب والجريدة والمجلة والتلفاز. كل هؤلاء معلمون، لذلك المفهوم الوارد أعلاه.

المعلم ذو مهمة مفتوحة تشمل كل ما يصدر منه من سلوكيات، إلى طريقة عيش، لتصل إلى الاقتداء والتصور وطريقة التفكير

يغلب على ظني إلى حد الاعتقاد أن المعلم أبعد من ذلك، فليس كل من علمني حرفًا هو معلمي، كما هو في الحكمة الشائعة، ثمة معنى للمعلم أعمق من ذلك، لذلك فالله هو المعلم الأول: "سبحانك اللهم خير معلم، علمت بالقلم القرون الأولى". فماذا يعني أن يكون الله هو المعلم الأول؟

اقرأ/ي أيضًا: حين تتردى الأخلاق بتردي السلطة

الله جلت قدرته، خالق وراع ومربّ وحافظ، عدا أنه "علّم آدم الأسماء كلها"، وتعليم آدم الأسماء كلها يعني فيما يعني التهيِئة لاستقبال المعلومات وتجهيزه بكل ما يساعده على استقبال المعلومات والمعارف من الآخرين. هذا معنى تأسيسي للمعلم، لكن ثمة معنى آخر، فالله لم يتركنا، ولن يركنا وحدنا في هذا الكون، ولم يخلقنا عبثًا قطعًا، ولن يترك حياتنا تذهب هدرًا، حتى لو رأيناها كذلك، وعشناها تافهة جدًا بلا هدف أو غاية على ما يظهر. الله كونه معلمًا أزليًا أبديًا يعطيها معنى ما. هذا هو دور مهم لكونك معلمًا، أن تعطي أعمال المتعلمين معنى وأهمية حتى لو رآها هو نفسه غير ذات قيمة، لذلك ورد تعظيم لأصغر الأفعال الصادرة عن البشر "لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلِق" و"تحسبونه هينا وهو عند الله عظيم".

إضافة إلى أن الله برعايته للبشر أرسل إليهم رسلًا، اتخذوا الدور المحسوس الملموس المباشر لمهمة الله في رعاية البشر وتعليمهم. هكذا كان موسى مع بني إسرائيل، وهكذا كان عيسى ومن بعده الحواريون، وهكذا كان محمد، صلى الله عليهم وسلم جميعًا، ومن بعده صحابته الكرام "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"، فالرسل والمتبّعون لهم، لم يكونوا قضاة إلا بصفات أخرى غير تعليمية، أو ربما هي تعليمية تقويمية لإصلاح السيرة والسلوك، والتقويم بأدواته المختلفة جزء من عملية التعليم.

فالمعلم حتى يكون معلمًا حقيقيًا يجب أن يحلّ محل الرسل في التهذيب والتربية والتعليم والمتابعة والتقويم والمصاحبة والصداقة والمحبة، وليس فقط إلقاء المعارف والتدريب على المهارات. لتنتقل الشخصية بطول الصحبة والألفة إلى استلهام الروح والسلوك والتعليم العميق لتمثل الرؤى والسير على المنهج المعين. بهذا المفهوم للمعلم غير مرتبط بساعات مضبوطة في دوام منضبط يبدأ وينتهي بساعة ما، يتلقى فيها المتعلم كمًّا من المعارف والعلوم. المعلم ذو مهمة مفتوحة تشمل كل ما يصدر منه من سلوكيات، إلى طريقة عيش، لتصل إلى الاقتداء والتصور وطريقة التفكير.

أن تكون معلمًا معناه أن تعطي أعمال المتعلمين معنى وأهمية حتى لو رآها هو نفسه غير ذات قيمة

من نجح أن يكون معلمًا فعلًا ضمن هذا التصور للمعلم؟ في كل حقل من الحقول من يتمثل الصفة المعينة نادرون، الله معلم والأنبياء معلمون وبعض الحكماء معلمون وبعض مشايخ الطرق الصوفية معلمون، وكونفوشيوس وبوذا كانا معلمين كذلك. على كل حال، إنهم نوادر في كل عصر.

اقرأ/ي أيضًا: لاوتزو.. فلسفة اللافعل

أن تنذر نفسك لتكون معلمًا ليس أمرًا سهلًا أبدًا، فأن تكون معلمًا يعني أن تكون حياة كلها مكرسة لمن تعلمهم، ومن يرضى بذلك ليكون هو ذلك المعلم الذي يتابع مهمة الله والرسل، ليكون من أولى العزم حقيقة وليس مجازًا، كالرسل سواء بسواء. إنهم بلا شك نادرون، وليس كما يتوهم الكثير من الناس.

 

اقرأ/ي أيضًا

المعلم العربي على مذبح أخلاقيات العلم

هل الشعب هو المعلم والقائد؟