05-يوليو-2016

(Ibrahim Ramadan/Anadolu Agency/Getty)

الكتلة البشرية لا تميّز نفسها، لا تصير مستقلة في حد ذاتها من دون تنظيم نفسها، بالمعنى الواسع للكلمة. وما من منظمة دون مثقفين، أو بكلمات أخرى؛ دون منظِمين وقادة، دون الجانب النظري لترابط النظرية والممارسة، ذلك الذي يميّز وجود مجموعة من الناس "المتخصصة" في الإعداد النظري والفلسفي للأفكار "غرامشي".

ما الذي يفسر عجز القوة الاقتصادية عن ترجمة نفسها في أكثر من مناسبة ثورية في صورة سياسية قادرة على استيعاب كافة قطاعات المضطهدين وتوجيههم لإسقاط الهيكل الاقتصادي للبرجوازية؟

يجادل بعض اليساريين بأن "الشعب هو المعلم والقائد" وما على الإنتلجنسيا سوى السير خلفه ودعمه والتضامن معه في كل مواقفه دون نقاش، لكن لو توقفنا لحظات لإعادة النظر في هذه المقولة سيثار حولها تساؤلات عدة، فما هو المفهوم المقصود بالشعب؟ هل المقصود مثلًا تحالف قوى الشعب من العمال والفلاحين والرأسمالية الوطنية المزعومة بغض النظر عن التناقضات الطبقية بينهم؟ أم المقصود هو تحالف العمال والفلاحين والمهمشين؟ هل هذا المفهوم فعلًا من التجانس بحيث يكون لدى كل القطاعات التي يشتمل عليها القدرة على بلورة بديل ثوري متسق في نفس الوقت؟!

وماذا عن سيطرة البرجوازية على أدوات تشكيل الوعى من إعلام وتعليم ومنابر ثقافية؟ فكيف يمكن للبروليتاريا أن تتخلص من هيمنة مجموعة المفاهيم المشتركة عن العالم والتي أنتجتها وطورتها البرجوازية لترسيخ سيطرتها؟ وماذا لو تحرك الشعب بشكل طائفي أو عرقي أو جنسي؟ ماذا سيكون موقف هؤلاء اليساريين ساعتها من الحراك؟ وما الذي يفسر عجز القوة الاقتصادية عن ترجمة نفسها في أكثر من مناسبة ثورية في صورة سياسية قادرة على استيعاب كافة قطاعات المضطهدين وتوجيههم لإسقاط الهيكل الاقتصادي للبرجوازية؟

اقرأ/ي أيضًا: بحث عن يسار "إنسانيّ" في سوريا

يعيدنا هذا الموقف إلى نفس الانحرافات اليسارية الاقتصادوية في فهم النظرية الماركسية والتي تحدثنا عنها في المقال السابق والتي تفترض حتمية تقدمية الحراك الجماهيري كرد فعل لتصاعد حدة الاستغلال الرأسمالي متعللين بمقولة ماركس أن "تحرر الطبقة العاملة هو فعل الطبقة العاملة" والتي لو مددناها على استقامتها فهذا سيعني وفقا لهم أن تحرر الطبقة هو فعل الطبقة بشكل ميكانيكي بحت دون الحاجة لتدخل من الإنتلجنسيا الماركسية الثورية.

ولكن وفي نفس البيان الشيوعي يقول ماركس إن "الوعي السائد هو وعي الطبقة السائدة" وبالتالي لو مددنا هذه المقولة أيضًا على استقامتها فإنها تعني استحالة تخلص البروليتاريا من الإيديولوجيا البرجوازية المهيمنة ما لم تستطع تحقيق السيادة الطبقية وهو ما لن يحدث ما دامت البروليتاريا لم تقم بالتخلص من هيمنة الوعي البرجوازي! فهل يتناقض ماركس مع ماركس؟!

إن الخطأ الرئيسي لأصحاب النزعات المادية الميكانيكية هؤلاء هو النظر إلى الواقع والعالم الحسي على شكل موضوع للتأمل فقط وليس كنشاط إنساني ملموس في ميدان العمل، بالتالي ينظرون للماركسية كنظرية دوغمائية لتحليل النصوص الثقافية وليس كمنهج لتحليل العلاقات الاجتماعية يرتكز على رؤية تراكمية جدلية لطبيعة التغيير الثوري مما يسقطهم في فخ الشعبوية والديماجوجية ويرجع هذا بالأساس لفشلهم في التخلص من هيمنة الوعي البرجوازي السائد بشكل كلي.

الحزب الثوري ليس مجرد انعكاس لمستوى الفهم السائد وسط العمال في وقت بعينه 

ولكن لو نظرنا للماركسية كمنهج لتحليل العلاقات الاجتماعية سنجد حلًا للمعادلة فيما طرحه لينين حول الطبيعة الجدلية للصراع الطبقي والتي تتخطى كونه صراع بين الطبقات إلى كونه أيضًا صراع داخل الطبقة نفسها بين القطاعات الأكثر تقدمًا والقطاعات الأقل تقدمًا على مستوى الوعي، وبالتالي ضرورة بناء حزب ثوري يضم طليعة الطبقة العاملة، وليس كل الطبقة العاملة، إلى جوار الإنتلجنسيا الثورية كشرط رئيسي لتحقيق عملية التحرر الذاتي للطبقة العاملة وذلك بأن يكون هذا الحزب هو المنارة التي ترشد جموع العمال إلى الطريق الوحيد لتحقيق مصالحهم الاستراتيجية، وأن يسعى أيضًا لكسر احتكار البرجوازية للوعى وكسب المزيد من العمال على خطاب البروليتاريا في أوقات الركود وأن يعمل كمكبس يقوم بتجميع حراكهم وتوجيهه في اتجاه القضاء على الرأسمالية وقت الثورة.

فالحزب الثوري ليس مجرد انعكاس لمستوى الفهم السائد وسط العمال في وقت بعينه فهو لا يمثل كل العمال بل يضم القطاع المتقدم منهم فقط وبالتالي فدوره الأساسي هو الكفاح الواعي ضد هذا التفاوت في وعي الطبقة العاملة والسعي لخلق خطاب بروليتاري علي الجانب الأخر من المتاريس في مواجهة الخطاب البرجوازي المهيمن يكون ذاكرتها النضالية العابرة للزمان والمكان وأن يتعلم منها في نفس الوقت.

إما هذا أو سيتبدد البخار في الفراغ وسيسير التطور العفوي لحركة العمال تدريجيًا في اتجاه الخضوع للإيديولوجيا البرجوازية، ذلك كون الإيديولوجيا البرجوازية، كما يقول لينين: "هي الأقدم من حيث منشأها من الإيديولوجيا الاشتراكية بكثير، كونها وُضعت بصورة أكمل من جميع الوجوه، ولأنها تتصرف بوسائل النشر أكثر بما لا يُقاس.

فالكتلة البشرية -كما يقول غرامشي- لا تميّز نفسها، لا تصير مستقلة في حد ذاتها من دون تنظيم نفسها، بالمعنى الواسع للكلمة. وما من منظمة دون مثقفين، أو بكلمات أخرى؛ دون منظِمين وقادة، دون الجانب النظري لترابط النظرية والممارسة، ذلك الذي يميّز وجود مجموعة من الناس "المتخصصة" في الإعداد النظري والفلسفي للأفكار.

 يرتكز خطاب البرجوازية الشعبوي على الاستثمار في الأوهام التي زرعتها في وعي البروليتاريا سواء كانت وطنية أوقومية أوطائفية أو دينية

وهذا هو الفارق الرئيسي بين الخطاب الشعبي الذي يتبناه الحزب الثوري والذي ينطلق من التناقض الرئيس بين البروليتاريا والبرجوازية على أرضية الصراع الطبقي لقيادة الجماهير المضطهده: خطوات إلى الأمام في اتجاه تحطيم الإيديولوجيا البرجوازية السائدة وتحقيق التحرر الذاتي للطبقة العاملة مما يعني دخوله في نقاشات وصدامات ومعارك مع قطاعات من البروليتاريا المتأخرة حال خضوعها للإيديولوجيا البرجوازية. وبين الخطاب الشعبوي والديماجوجي الذي تتبناه قطاعات من البرجوازية والبرجوازية الصغيرة والذي يرتكز على الاستثمار في الأوهام التي زرعتها البرجوازية في وعي البروليتاريا سواء كانت وطنية أوقومية أوطائفية أو دينية ..إلخ، لركوب الحراك الجماهيري وإعادة تدوير الإيديولوجية البرجوازية في وعي المضطهدين وضربهم ببعضهم والترويج لأوهام الاستقلالية عن التنظيمات الثورية لخلق تناقض مصطنع بينها وبين البروليتاريا.

فشعار "الشعب هو المعلم والقائد" هو شعار ديماجوجي شعبوي إن خرج على لسان البرجوازية التي تتبناه شكليًا لكسب الشعبية والإيهام بالديمقراطية المباشرة عبر مخاطبة الجماهير بما تود سماعه وما يتسق مع أوهامها حول طبيعة أزمتها ودورها في التاريخ بينما هو شعار يحتاج للكثير من الضبط عندما يستخدمه الماركسيون الثوريون للتعبير عن الخبرات النضالية المتراكمة العابرة للزمان والمكان على طول التاريخ الإنساني للطبقة العاملة في القلب من الصراع الطبقي والتي يعبر عنها الحزب الثوري باعتباره ذاكرة الطبقة العاملة ووفقًا لهذا فإن الصيغة السليمة بعد الضبط ستكون "الصراع الطبقي هو المعلم والحزب الثوري هو القائد".

اقرأ/ي أيضًا:

سلافوي جيجك.. الاستشفاء بجرعة لينينية

كفر موسكو.. لا حزب ولا مقهى