22-ديسمبر-2021

رسم لـ سيرجيو انجرافالي/ ألمانيا

تعتقد صديقتي أنها صارت تمتلك كلمة السر التي تجعلها على صواب دومًا. وصفة بسيطة ولكن سحرية تضعها في مصاف الحكماء. هكذا فعندما تنشب معركة أو تنفجر ثورة أو يعلو صوت شجار، أو حتى يحتدم نقاش.. فإن بوصلة عقلها سرعان ما تشير إلى المكان الوحيد الذي تمكث فيه الحقيقة: النقطة التي تقع على مسافة واحدة من المتخاصمين، في الوسط تمامًا، هناك تجلس مسترخية، تغمض عينيها وتأخذ نفسًا عميقًا، وتشعر أنها مينيرفا نفسها.

الرأي القائل بأن الحقيقة وسط بين طرفين ليس له فائدة عملية في كونه معيارًا يعتمد عليه في كشف الحقيقة أين تكون

يقدّم هذا المكان الآمن لكل اللائذين به شعورًا بالطمأنينة الشاملة، وبالحصانة من الغلو والتطرف والانحيازت المدان، ويجعل المستقبل يقدّم لهم وعودًا سخية ومؤكدة بالسلامة وبإفحام الجميع. وفيما يخرج المتقاتلون مثخنين بالجراح، ويخرج المتخاصمون بأرواح غاضبة وقلوب متحجرة، وفيما يدير المتناقشون ظهورهم إلى بعضهم وإلى الأبد.. فإن الوسطي الحكيم لا يخسر شيئًا أو أحدًا، والأهم أن ابتسامته المشعة تظهر أنه كان على حق مجددًا.

اقرأ/ي أيضًا: سعادة إيلون ماسك الإلهية

تجرب صديقتي هذه الوصفة على كل شيء تقريبًا، السياسة والاقتصاد والرياضة والأزياء والموسيقى.. فإذا ما تجادل إخوتها حول "الربيع العربي"، أو تشاجر أبناؤها إثر مباراة برشلونة وريال مدريد، أو تنافست صديقتاها على فستان، أو كانت تشاهد الانتخابات الأميركية وتستمع إلى المنقسمين بين الحزبين.. فإنها تطوف على الجميع بابتسامة مترفعة، وإن كانت لا تخلو من إشفاق، وتقول مخاطبة أحدًا ما أو شيئًا ما في الأفق البعيد: "أنا لا يمكن أن أكون مع أحد.. لا مع هؤلاء ولا مع أولئك".. قبل أن تعود إلى صمتها بهيئة من فرغ لتوه من إصلاح العالم.

ظننت، بدايةً، أنها حالة طارئة سرعان ما تذهب في سبيلها، ولكن الطارئ قدّم ما يشي بأنه سيغدو مستقرًا راسخًا، فشمرت عن ساعدي ورحت أخوض في نقاشات يائسة لم تزد صديقتي إلا ثباتًا وإصرارًا. ثم اهتديت إلى وسيلة أخرى لا أعرف إلى الآن نتيجتها، فقد أهديتها كتاب "التفكير المستقيم والتفكير الأعوج" لعالم النفس البريطاني روبرت ثاولس، ونصبت لها فيه شراكًا، إذ ظللت بالألوان عنوان الفصل المنشود، "الاحتيالات والغش في الجدال"، وبعض العبارات فيه.

يقول ثاولس إننا جميعًا نحب اختيار الحل الوسط، فإذا "أوصانا أحدهم باتخاذ موقف يكون وسطًا بين موقفين متطرفين فإننا نجد عادةً في أنفسنا إقبالاً على الأخذ بهذه التوصية". لكنه يضيف: "في النهاية لا بد لنا من أن نصل، مع الأسف، إلى نتيجة هي أن الرأي القائل بأن الحقيقة وسط بين طرفين ليس له فائدة عملية في كونه معيارًا يعتمد عليه في كشف الحقيقة أين تكون".

الوسطي الحكيم لا يخسر شيئًا أو أحدًا، والأهم أن ابتسامته المشعة تظهر أنه كان على حق مجددًا

مثال من الكتاب: إذا أردتُ، مثلًا، أن أقنعك بأن اثنين واثنين مجموعهما خمسة، فقد أرغّبك في ذلك على اعتبار أن هذا الحساب في موقع متوسط بين موقعين مغاليين، أحدهما موقف المتطرفين الذين يصرون على أن اثنين واثنين مجموعهما أربعة، والثاني موقف المتطرفين الآخرين الذين يرون أن اثنين واثنين مجموعهما ستة. وقد "تصدقوني جميعكم من نساء ورجال لكونكم معتدلين.. ولكننا، أنا وأنتم على السواء، مخطئون لأن الحقيقة فعلًا في جانب من الجانبين المتطرفين".

اقرأ/ي أيضًا: صحراء اللغات

إن "وجود طرفين متناهيين ووجود وسط بينهما لا يقرر موقع الحقيقة تمامًا، لأن هذه الحقيقة قد يحتمل لها أن تكون في الوسط بقدر ما يحتمل لها أن تكون في أحد الطرفين"، هكذا يقول روبرت ثاولس، ولكن المثل اليوناني القديم أكثر بلاغة: "قد نصل إلى الحماقة من شدة إصرارنا على التمسك بالحكمة". ومعاذ الله أن أكون قاصدًا صديقتي بذلك!

 

اقرأ/ي أيضًا:

قصّة شَعر شيرين

المكان بلا جهاته