12-فبراير-2021

طابع تذكاري للشهيد أنيس دولة

تعدّ تجربة الحركة الفلسطينية الأسيرة محطة مهمة في تاريخ النضال الوطني الفلسطيني في مقارعة المحتل، وكانت ولا تزال الأكثر زخمًا في كيفية إدارة الصراع على كل الأصعدة وذلك من خلال مواجهة السجان الذي لم يدخر أية وسيلة لمحاولة كسرها، بالرغم من المعاناة والمعايشة اليومية للقهر والقسوة التي يواجهها الأسرى في سجون الاحتلال، إلا أن ذلك لم يمنع من تسجيل الكثير من قصص التضحية التي تبعث على الافتخار بتاريخ الحركة الفلسطينية الأسيرة.

تعدّ تجربة الحركة الفلسطينية الأسيرة محطة مهمة في تاريخ النضال الوطني الفلسطيني في مقارعة المحتل

أنيس دولة ضابط الاحتياط في الجيش الأردني، مولود في قلقيلية شمال الضفة الغربية عام 1944. التحق وقت تصاعد المد الثوري التحرري في المنطقة بصفوف حركة القوميين العرب عام 1966، بعد هزيمة 1967 والإعلان عن انطلاقة الجبهة الشعبية، أصبح أحد أعضاء جناحها العسكري الذي أوكلت إليه مهمة أساسية وهي تعزيز العمل العسكري في الضفة الغربية انطلاقًا من الأراضي الأردنية.

اقرأ/ي أيضًا: عزمي الصغير.. شرف العسكرية الفلسطينية

شارك في إحدى الدوريات التي نجحت بالتسلل إلى مدينة نابلس. وفي 4 تشرين الثاني/نوفمبر1968، نفذ أفراد المجموعة عملية فدائية بمهاجمة مقر الحاكم العسكري في المدينة، فقام أنيس بالتغطية على انسحاب أفراد مجموعته والتي عادت إلى قواعدها في الأردن بسلام، واشتبك مع قوات الاحتلال ليصاب برصاصة في ساقه وبعد مطاردة استمرت ساعات طويلة استطاعت خلالها قوات الاحتلال اعتقاله.

تعرض أنيس دولة لاستجواب عنيف وتعذيب شديد بأقبية التحقيق ليحكم عليه في وقت لاحق بالسجن المؤبد 4 مرات، من قبل المحكمة الإسرائيلية جراء مشاركته في مقاومة الاحتلال.

في 22 شباط/فبراير 1969، أُعلن عن قيام الجبهة الديمقراطية بعد انشقاقها عن الجبهة الشعبية، كان لهذا الانشقاق تداعياته حتى داخل السجون فانحاز أنيس للجبهة الديمقراطية وأصبح أحد كوادرها الأساسيين في المعتقل.

أصبحت السجون مع تصاعد العمل العسكري ساحة نضال حقيقي، ومع اللحظات الأولى لإعلان انطلاقة الجبهة الديمقراطية شارك أنيس دولة بتشكيل المنظمة الحزبية للجبهة داخل المعتقلات، رفقة رفيق دربه الشهيد عمر القاسم، مانديلا فلسطين. لم يعقه السجن من ممارسة دوره النضالي من أجل انتزاع الحقوق الإنسانية الأساسية للمعتقلين، فخاض معارك عدة بالمواجهة مع إدارة السجون بالتنسيق مع باقي فصائل العمل الوطني والتي نسج معها علاقات واسعة داخل المعتقل لإيمانه أن الوحدة الوطنية رغم الاختلاف التنظيمي والفكري، تتقاطع في نقطة واحد وهي الظفر بحقوق المعتقلين الإنسانية.

في 15 نيسان/أبريل 1974، قامت وحدة الشهيد كمال ناصر في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين باقتحام مستعمرة معالوت المقامة على أراضي بلدة ترشيحا الفلسطينية

في 15 نيسان/أبريل 1974، قامت وحدة الشهيد كمال ناصر في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين باقتحام مستعمرة معالوت المقامة على أراضي بلدة ترشيحا الفلسطينية، واحتجزت مجموعة من المستوطنين داخل إحدى مدارسها، تقدم الفدائيين بطلب الإفراج عن 26 معتقلًا من سجون الاحتلال مقابل إطلاق سراح الرهائن وكان من ضمن الأسماء اسم أنيس دولة وعمر القاسم، حاولت قوات الاحتلال ربح الوقت وقامت بنقل الأسيرين أنيس وعمر بطائرة مروحية إلى مكان العملية، في محاولة لإجبارهم على التفاوض مع الفدائيين من أجل تسليم أنفسهم، لكنهم رفضوا ذلك بشكل مطلق لإيمانهم بمشروعية مطالب الفدائيين فإنهال عليهم جنود الاحتلال بالضرب المبرح وتمت إعادتهم إلى السجن ومعاقبتهم بالزج بهم في زنازين انفرادية لمدة طويلة.

اقرأ/ي أيضًا: زياد الحسيني.. الفدائي الذي حكم غزة ليلًا

خلقت الممارسات الإجرامية والمعاملة المشينة التي كان يتعرض لها السجناء كالعزل الانفرادي لفترات طويلة، والتفتيش العاري المهين، والحرمان من النوم، والضرب المبرح من قبل السجانين على أتفه الأسباب.. خلقت قناعة داخل المعتقلات أن الإضراب عن الطعام أصبح وسيلة مقاومة رئيسية من قبل المعتقلين الفلسطينيين، بالرغم من أن هذا الخيار القاسي كان يعرض حياتهم للخطر لكن لا مناص منه لتجاوز المعاناة والتنكيل اليومي الذي كانوا يتعرضون له.  

في سجن عسقلان، شارك أنيس ورفاقه المعتقلون في إضراب مفتوح عن الطعام وعرف بـ"إضراب عسقلان" الشهير، في 11 كانون الأول/ديسمبر 1976، أعلن السجناء عن بداية الإضراب وكانت المطالب تحسين شروط الحياة اليومية داخل السجن، استمر الإضراب لمدة 45 يومًا، سمحت إدارة السجن بعد رضوخها لمطالب المعتقلين بتحسين نوعية الأكل واستبدال أفرشة الزنازين المهترئة، بالإضافة للسماح بتبادل الرسائل بين الأهل والسجناء، لكن بعد تراجع إدارة السجن عن بعض الوعود التي قطعتها للأسرى، قرروا استئناف الإضراب في 24 شباط/فبراير 1977 والذي استمر لمدة 20 يومًا إذ يعد امتدادًا للإضراب السابق، كان لطول مدة الإضراب أثر على الحالة الصحية لأنيس، وسبب له العديد من المشاكل والأمراض المزمنة إلا أن إرادته وإيمانه بحق السجناء بحياة أدمية داخل السجون جعله لا يوقف الإضراب ويستمر فيه الى النهاية.

في 14 تموز/يوليو 1980، أُعلن عن إضراب عام عن الطعام في سجن "نفحة" الذي شيد في الصحراء بهدف عزل قيادة الحركة الأسيرة وكادرها التنظيمي، بعد أن تمكنت من فرض نفسها والعمل على النهوض بواقع الأسرى، وفي محاولة لكسر إنجازاتها قامت إدارة مصلحة السجون باختيار 80 من الأسرى البارزين من كافة التنظيمات في السجون وتجميعهم في سجن "نفحة" الصحراوي وهو عبارة عن قسمين (أ- ب) في ظروف قاسية للغاية، من حيث الطعام الفاسد والمليء بالأتربة، وتم الزج بأعداد كبيرة منهم في غرفة واحدة تفتقد للتهوية إضافة لتقليص مدة الخروج من الزنازين لباحة السجن.

أمام هذه الممارسات السيئة أعلن الأسرى في المعتقل الصحراوي عن الإضراب عن الطعام بعد التنسيق مع معتقلي سجني "عسقلان" و"بئر السبع"، فبدأ الإضراب وتمت مهاجمة المضربين بقسوة وعنف من قبل سلطات السجن، لكن الأسرى استمروا في الإضراب فاستعملت إدارة السجن كل الأدوات لمحاولة كسر الإضراب عن طريق نقل قسم من المضربين من سجن "نفحة" إلى سجن "الرملة"، لكن أقسى ما تم به مواجهة المضربين هو قيام السجانين بإرغام الأسرى على تناول الطعام بتسريب الغذاء الصناعي عن طريق الأنبوب.

خلقت الممارسات الإجرامية والمعاملة المشينة التي كان يتعرض لها السجناء قناعة أن الإضراب عن الطعام أصبح وسيلة مقاومة رئيسية من قبل المعتقلين الفلسطينيين

قارب الإضراب الشهر مما أدى إلى سوء في الحالة الصحية للعديد من المعتقلين، وفي يوم 24 تموز/يوليو أعلن عن استشهاد الأسيرين راسم حلاوة وعلي الجعفري من تداعيات الإضراب عن الطعام، إذ اعتُبِر هذا الإضراب الأشرس والأكثر عنفًا.

اقرأ/ي أيضًا: مراثي خان الشيح

بعد استشهاد الأسرى التحقت العديد من السجون الأخرى بالإضراب الذي تواصل لمدة 33 يومًا. شكلت سلطات الاحتلال لجنة بحثت في أوضاع المعتقلين، فأوصت بتحسين ظروف المعتقلين.

انتصر الأسرى في إضرابهم التاريخي وحظي هذا الإضراب بتغطية إعلامية واسعة خاصة بعد استشهاد الأسرى، كما حظي بحملة تضامن شعبية واسعة من قبل عائلات الأسرى ومناصريهم، وقد أحدث هذا الإضراب نقلة نوعية في شروط حياة الأسرى بسجون الاحتلال، وإن لم تكن كافية.

عرفات في عزاء أنيس دولة في بيروت، وعلى الحائط خلفه ملصق للشهيد

كان أنيس أول المشاركين في الإضراب على الرغم من مرضه وآلامه المتفاقمة رغم محاولة إخوانه الأسرى ثنيه عن المشاركة، إلا أنه أصرّ على المشاركة في الإضراب سجن عسقلان، رافضًا استبعاده أو استثنائه. فتدهورت أوضاعه الصحية أكثر وتضاعفت آلامه وحاول مسؤول عيادة السجن مساومته بفك الإضراب مقابل إعطائه العلاج، ولكنه رفض المساومة، وأصر على مواصلة المعركة.

في 31 آب/أغسطس 1980، بعد يوميين من انتهاء الاضراب وفي باحة معتقل عسقلان شعر أنيس بوخزة في الصدر فسقط بعد أن فقد الوعي. نقله رفاقه إلى عيادة السجن، وبعد ساعات أبلغ السجان رفاقه أن أنيس قد مات ليصبح ثالث شهداء الاضراب.

كان أنيس دولة أول المشاركين في إضراب أسرى سجن "نفحة" الصحراوي، على الرغم من مرضه وآلامه المتفاقمة رغم محاولة إخوانه الأسرى ثنيه عن المشاركة

بعد ثلاثة أيام، نقلت اللجنة الدولية للصليب الأحمر، نبأ استشهاد أنيس دولة للعائلة لكن بقيت المعلومات الواردة عن ظروف الاستشهاد ومكان الدفن قليلة ومتضاربة.

اقرأ/ي أيضًا: أعياد الأسرى.. قطايف و"بوظة" وشوق لـ"تفاصيل صغيرة"

وبعد أسبوعين من تاريخ استشهاده توجهت عائلته إلى الصليب الأحمر وطالبته باستلام جثمان أنيس، ولكن الصليب الأحمر أخبرهم بأن الاحتلال رفض تسليمهم الجثمان؟ وسلمهم شهادة تشير إلى إطلاق سراحه بنفس تاريخ إعلان استشهاده؟ وأن اسمه لم يعد مدرجًا في سجلات السجن بعد ذلك التاريخ.

يسأل حسن دولة شقيق الشهيد أنس: "حسب ورقة الصليب الأحمر، فإن شقيقي قد فارق الحياة داخل المعتقل، فكيف تدعي سلطات الاحتلال أن جثمانه قد اختفى؟ والورقة الأخرى تشير إلى أنه تم إطلاق سراحه، إلى أين تم نقله إذًا؟ هل توفي وبقي داخل المعتقل أم نقلوه إلى مكان آخر؟ لماذا هذا التضارب في تقارير الصليب الأحمر؟ عدا ذلك كله، لماذا أخبرت سلطات الاحتلال رئيس بلدية قلقيلية في ذلك الوقت، نيتها تسليم جثمانه، وعدلت عن القرار لاحقًا بعدما قام أهالي المدينة بحفر قبره نيابة عنا، كونه لم يكن أحد منا هناك".

أخذت القضية مسار يكتنفه الكثير من الغموض فبعد عامين من إعلان استشهاده، أبلغ الصليب الأحمر العائلة بتشريح جثمان أنيس بناء على تقرير تشريح الجثة الصادر عن وزارة الصحة الإسرائيلية؟ السؤال المطروح هل يعقل أن يتم تشريح الجثة بعد سنتين من وفاة الشهيد؟ هذا يفتح الباب على عدة تساؤلات هل أنيس لا يزال معتقلًا؟ أم أن الجثة تم التخلص منها؟ أم أن إسرائيل تماطل في تسليمها انتقامًا من الشهيد؟

ومما زاد الشكوك حول مصير أنيس، الرسالة التي بعثها الصليب الأحمر إلى عائلة الشهيد والتي جاء فيها: "نحيطكم علما أننا لم نجد في ملفاتنا رقم هوية أنيس، أو رقم سجنه الذي يمكننا المساعدة في البحث مع مصلحة السجون، الصليب الأحمر مستعد لقبول طلبكم، بالإضافة الى ذلك نحن عثرنا في ملفاتنا الداخلية على الإشارة على تقرير تشريح الجثة الصادر من وزارة الصحة الإسرائيلية، معهد الطبي العدلي بتاريخ 3/5/1982"؟

ترجح العائلة وفق معلومات مصدرها أسرى محررون كانوا معه في المعتقل أن الشهيد أنيس مدفون في ساحة معتقل عسقلان، ولم يتم نقله إلى مكان آخر في محاولة من إدارة السجن للتغطية عن الإهمال الطبي الذي أدى إلى استشهاده، وما زاد في تأكيد هذه الفرضية إعلان سلطات الاحتلال أن جثته قد فقدت ولا توجد حتى في مقابر الأرقام!

بعد أسبوعين من استشهاد الأسير أنيس دولة، أخبر الصليب الأحمر أهله بأن الاحتلال رفض تسليم الجثمان، وسلمهم شهادة تشير إلى إطلاق سراحه بنفس تاريخ إعلان استشهاده!

لم تستسلم العائلة في سعيها للكشف عن مصير ابنها فقد طرقت كل الأبواب التي يمكن أن تقدم لها أي معلومة تخدم قضيتها، وراسلت كل الجهات التي لها علاقة بالموضوع.

اقرأ/ي أيضًا: حسن.. ابن الأسير والحرية

بعد انطلاق حملة استراد جثامين الشهداء، تقدمت عائلة الشهيد أنيس دولة بشكوى لمركز القدس للمساعدة القانونية الذي تكفل من الناحية القانونية بمتابعة ملف أنيس، حيث بعث المركز بمراسلة قانونية إلى المحكمة العليا الإسرائيلية للكشف عن مصير جثمان أنيس.

في عام 2013، ردت المحكمة العليا الاسرائيلية على المراسلة بأن سلطات الاحتلال الإسرائيلي لا تملك أي معلومات عنه والجثمان مفقود. وقرّرت شطب الالتماس المقدم من قبل المركز لاسترداد جثمان أنيس دولة من مقابر الأرقام، وحسب حيثيات قرار المحكمة: "بعد فترة طويلة جدًا على وفاته، وعلى ضوء نتائج البحث لدى السلطات المختلفة، منها جهاز الأمن العام الإسرائيلي الشاباك، وقيادة الجيش والشرطة وإدارة مصلحة السجون ومؤسسة التأمين الوطني، فإنه لن تكون هناك فائدة من إصدار أمر من المحكمة لصالح عائلة أنيس دولة".

يستذكر حسن دولة شقيق أنيس كيف أن والدته كانت تتأمل بوضع وردة على ضريح شقيقه ويقول: "عند وفاتها حملتني أمانة استرجاع جثمانه، واليوم أنا أحمل الأمانة لأكثر من 70 حفيدًا وحفيدة، فالأمانة تتوارث وقضية شقيقي الشهيد الأسير أنيس ستبقى قضية أساسية لنا، ولن نتخلى عنها مهما طال الزمان، ومقتنيات شقيقي الشهيد أنيس ما زالت في بيوتنا ورسائله أيضًا".

قضية أنيس دولة مثال صارخ عن الفعل الإجرامي الذي تتبعه سلطات الاحتلال بالانتقام من الشهداء باحتجاز جثاميهم في مقابر الأرقام، وعدم المبالاة بمصيرهم يُعتبر سياسة انتقاميه وبربرية لا مثيل لها في العالم، وانتهاكًا لكل الأعراف الدولية، لا سيما اتفاقيات جنيف الأولى والثالثة والرابعة، التي تنص في بعض موادها بحفظ كرامة الميت.

قضية أنيس دولة مثال صارخ عن الفعل الإجرامي الذي تتبعه سلطات الاحتلال بالانتقام من الشهداء باحتجاز جثاميهم في مقابر الأرقام

في 5 شباط/فبراير 2021، أعلنت المحكمة الجنائية الدولية أن الأراضي الفلسطينية تقع ضمن دائرة اختصاصها القضائي، ما يمهد الطريق لفتح تحقيقات بشأن ارتكاب جرائم حرب محتملة.

اقرأ/ي أيضًا: حنين الزعبي للاحتلال: جنودكم قتلة

لا شك أن قضية أنيس دولة هي جريمة حرب، وتحريك قضيته أصبح على عاتق الجهات الفلسطينية المتابعة لهذا الموضوع، والعمل على تدويل قضية جثامين الشهداء المحتجزة وفضح نهج دولة الاحتلال البربري مسؤولية وطنية، لأن الجرائم لا تسقط بالتقادم وسياسة العقاب الجماعي التي تمارسها اسرائيل مصيرها المحاسبة طال الزمن أم قصر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الشهداء، زوجاتهم، وإخوتهم.. الموروث والذكورية

لا تلووا ذراعنا بالشهداء