26-يوليو-2016

لا تكمن السعادة في العمل لساعات طويلة(Getty)

هل تعتقد حقًا أنّك أفضل من غيرك لأنّك تعمل لساعات أطول في المكتب؟ ربّما عليك أن تأخذ استراحة قصيرة لتقرأ هذه المقالة لعلّك تغيّر رأيك؟

تكون باريس في هذا الوقت من العام، خاصّة مع بداية آب/أغسطس، على موعد مع تغيير ملحوظ لأهل المدينة العارفين بها. فالسيّاح في هذا الشهر هم العنصر الأبرز، فتعجّ بهم الشوارع الجميلة والمحلّات الفاخرة، وبدل أن تسمع الأغاني الفرنسية كما في بقيّة الأشهر ترتفع أصوات الأغاني الإنجليزية والإيطالية والإسبانية. ففي آب/أغسطس، يأخذ العمّال الفرنسيّون إجازتهم السنويّة التي تمتدّ 31 يومًا، ومعظمهم إن لم يكن جميعهم، يختارون الذهاب إلى ألمانيا أو إسبانيا أو اليونان حيث تغريهم مياه المتوسّط والحياة التي لا تتوقّف هناك.

صحيح أنّ للوقت الذي تبذله في العمل علاقة طرديّة مع الإنتاجيّة، ولكنّ طول فترة العمل، في لحظة ما، قد تدخل في علاقة عكسيّة مع جودة إنتاجك

اقرأ/ي أيضًا: نصائح مؤسس لينكد إن في إدارة الوقت والأعمال

قد يرى البعض أنّ هذا نوع من الكسل، ولكنّ الفرنسيين في إجازتهم الطويلة هذه خلال طيلة الشهر المقبل يحاولون أن يتفادوا تلك النقطة التي يقعون بها ضحيّة المبالغة في العمل، وبعض الدراسات تشير إلى أنّ لهذه الإجازة انعكاسات إيجابية على إنتاجية العمّال بقيّة السنة. صحيح أنّ للوقت الذي تبذله في العمل علاقة طرديّة مع الإنتاجيّة، ولكنّ طول فترة العمل، في لحظة ما، قد تدخل في علاقة عكسيّة مع جودة إنتاجك، فتصبح كلّما عملت أكثر تراجعت إنتاجيّتك التي تطمح إليها.

فالعمل لساعات طويلة قد يجعلك عرضة لتطوير بعض أنماط السلوك التي تؤثر على إنتاجيتك. فهنالك مثلًا قانون باركنسون المعروف والذي يقول إنّ العمل يتمدّد بمقدار الوقت المتوفّر أمامك لإتمامه، لذا فلو قيدت نفسك بساعة محددة للعمل فإنّك ستعمل بشكل أفضل وأسرع.

وينطبق هذا الأمر كذلك على ممارسة مهارة ما وفقَ الدكتور أندريه إريسكون، أستاذ علم النفس في جامعة فلوريدا. فقد أجرى دراسة مرّة في برلين ووجد أنّ مقدار الوقت الذي يقضيه الموسيقيّ الناجح في التدريب كلّ يوم كان قليلًا بشكل مفاجئ، وهو ساعة ونصف فقط كلّ يوم، ووجد أنّ الموسيقيين الأكثر نجاحًا لم يكونوا يقضون وقتًا أقل في التدريب وحسب، بل وكانوا يستريحون أكثر خلال اليوم وأثناء التدريب إن شعروا بالتعب أو التوتّر.

كما تشير العديد من الدراسات إلى أنّ الضغط المستمرّ في العمل يؤدي إلى ضغوطات تؤثّر على جودة الحياة وتعرضها لخطر الموت المبكّر، عدا عن أنّها تمنع الموظف من حبّ عمله والتفاني فيه، ذلك أنّ التركيز في العمل يصبح شبه مستحيل إن كان الموظف يعمل خمسين ساعة أو أكثر في الأسبوع. وهناك العديد من الشركات التي أدركت ذلك فقلصت ساعات العمل الأسبوعيّة من 48 إلى 40 ساعة، ولعل المثال الأشهر والأقدم على ذلك هي شركة فورد، حسبما ورد في السيرة الذاتية لمؤسس الشركة هنري فورد، والذي خشي من تزايد أخطاء الموظفين بسبب ساعات العمل الطويلة.

صحيح أنّ بعض العمّال من ذوي الدخل المتدنّي يضطرون للعمل ساعات طويلة وفي أكثر من وظيفة لتلبية متطلبات الحياة الأساسيّة، ولكن ما الذي يدفع أولئك الموظفين من أصحاب المعاشات العالية إلى العمل ساعات طويلة دون أن يكونوا مضطرين عادة لذلك؟

اقرأ/ي أيضًا: منتجون أم منشغلون؟

تقول الأستاذة ألكساندرا ميشيل، وهي أستاذة في جامعة غولدمان ساكس في بنسلفانيا، إنّها وجدت في إحدى التجارب التي أجرتها في مصرفين معروفين في أمريكا أنّ بعض الموظفين كانوا يعملون 120 ساعة في الأسبوع (17 ساعة يوميًا) بمحض إرادتهم. وكانت نتيجة ذلك واضحة أنّ هؤلاء الموظفين كانوا يهملون صحتهم وشؤون عائلاتهم، والاستمرار في العمل لساعات طويلة لم يطور من إنتاجيتهم كثيرًا.

وترى ميشيل أنّ هؤلاء الموظفين يبذلون هذه الساعات في العمل ليس بداعي الحصول على مكافآت أو تجنب جزاء أو التزام بواجب بقدر ما هو نابع من فكرة تشكّلت لديهم مع الوقت بأنّ العمل لا بدّ وأن يكون على هذه الشاكلة وحسب.

تشير العديد من الدراسات إلى أنّ الضغط المستمرّ في العمل يؤدي إلى ضغوطات تؤثّر على جودة الحياة وتعرضها لخطر الموت المبكّر

قد يبدو سخيفًا للغاية أن يعمل بعض الناس لساعات طويلة لإشباع رغبتهم في العمل لساعات طويلة، ولاكتساب سمعة بين الآخرين بأنّهم قادرون على ذلك. فالانشغال بالعمل يشير ضمنيًا إلى الجدّية، وهذا يعطي انطباعًا جيدًا عن الشخص ومستوى تعليمه وتأثيره على المدى القريب أو البعيد. فحين يقول أحدهم "لا أستطيع، أنا مشغول" فهذا يشي بأنّه إنسان جادّ ذو أهمّية واعتبار.

يسود اعتقاد في بعض البلاد كذلك، ولاسيما الولايات المتحدة، أنّ العملَ في حدّ ذاته مسعى نبيل، والعديد من الناس يشعرون بالضياع الوجوديّ دون ارتباطهم بحبل العمل المستمرّ في حياتهم، حتّى لو لم يكن ذلك العمل عائدًا بالنفع الكبير عليهم ماديًا وصحيًا ونفسيًا.

قد يتفق العديد مع مقولة أرسطو المأثورة "نحن نعمل لنحصل المتعة التي تقوم عليها السعادة". فالجزرة التي تحفز الكثير من الموظفين على العمل هي حلم التقاعد وبدء حياة الراحة والمتعة. إلا أنّ هذه الفكرة كثيرًا ما تنقلب وتتحوّل حتّى نصل إلى مرحلة نضطر فيها لدمج حياتنا داخل روتين العمل بدلًا من دمج العمل في روتين الحياة. تلك الفكرة السارية بأنّ السعادة والرضا في الحياة لا يتحققان إلا عبر العمل الجادّ ليست سوى كذبة روّجها الإداريون وليست بطبيعة الحال مسلّمة من المسلّمات الفلسفية.

في عام 1932 كتب برتراند راسل في مقالته "في مدح الكسل" ليصحح هذه الفكرة الخاطئة فقال: "إن العالم الحديث يصيبه الكثير من الأذى نتيجة الاعتقاد بفضيلة العمل، ولكنّي أعتقد أنّ السبيل إلى السعادة والرفاهية ينحصر في التقليل المنظّم من العمل".

أي أنّ السعادة لا تكمن في العمل لساعات طويلة حتى آخر الليل، وإنّما في العثور على طرق للتخفيف من العمل، حتى لو كان ذلك يعني شراء أشياء أقل أو تغيير تصوراتك التي تفترض أنّ وجود شيء من الفراغ في يومك يعني بالضرورة إشكالًا في شخصيتك.

لا يزال العديد من الناس ملتصقين بذلك الاعتقاد الراسخ بالمكانة العليا للعمل مقارنة بالفراغ وذلك لما يمنحه العمل من ترتيب للحياة وهدف لها وللأخلاقيّة التي يمثّلها. ولكن ماذا يجري لو نظرنا إلى الفراغ على أنّه وقت ضروري للتأمل في حياتنا لنتمكّن من التوقف برهة ونستلهم الإبداع ونوفّر شيئًا من طاقتنا الذهنية لنقدر على متابعة العمل في المستقبل؟

المصدر

اقرأ/ي أيضًا:

كيف تنظم وقتك في 60 ثانية؟

5 سلطات صحية ستوفر عليك الوقت