28-نوفمبر-2018

رافع الناصري/ العراق

ـ إنه دوري في الجلوس..

قالها الشاب الطويل ذو اللحية الكثيفة، فتنحى الآخر، جلس ذو اللحية على الكرسي الوحيد في الغرفة، والذي لا يعرفون لأي زمن مهترئ يعود، ما يهمهم، أنه يجعلهم أكثر التصاقًا بريم، ريم التي لم تكن مجرد فتاة عابرة في حياتهم الضيقة، بل كانت نافذة، وميناء مليئًا باللون الأزرق، وأغنية ضاحكة في ليلهم الموحش، جلس الشاب الطويل على الكرسي مادًّا كفّه الأسمر الخشن، المرهق والمليء بالخدوش، نحوها، ووجّه سؤاله لرفاقه، سؤاله الذي يفتتح به كل ليلة نقاشاتهم التي لا تنتهي إلا بنوم يستلّهم من أحلامهم، وقال: أتظنون أن لديها عينين واسعتين؟ أشعر بأن شعرها أسود فاحم، فانهمرت الأصوات المخمّنة، والمتخيّلة، وارتفعت وتشابكت، أصوات تتعرف على معنى الضحك كل ليلة، هذا الذي يخفت شيئًا فشيئًا ويتركهم مغادرًا، وحيدين، بقلوب ثقيلة، وريم تتركهم أيضًا، وتغمض عينيها.

ولأن أي ملمح للضحك ممنوع هنا، في غرفتهم الصغيرة والخانقة التي يتكدسون فيها، فقد استيقظوا ذات صباح ورأوا أن ريم قد اختفت، هكذا فجأة، لم تعد موجودة، مرّروا، واحدًا تلو الآخر، أكفّهم الحزينة على الجدار الموحش دون اسمها، ولم يعثروا عليها، ظنوا أنهم توهموا مكان الاسم المكتوب على الحائط، الذكرى الصغيرة، فبحثوا بدقة في كل مكان، حتى أصابهم اليأس وتأكدوا أن يداً امتدت لريم، وألغت حضورها الخفيف، من هناك، يسار النافذة الوحيدة والمغلقة بقسوة، اقتلع اسمها بعنف.

شعروا تلك الليلة، أنهم أكثر وحدة مما مضى، وأشد حزنًا وقلقًا، إذ كيف سيمر الليل؟ بدأوا يحاولون شغل أنفسهم بأشياء أخرى، كأن يتذكروا الطريق إلى المقهى الذي كانوا يلتقون فيه، أو أسماء رفاقهم الآخرين، لكن هذه الأحاديث كانت تصيبهم بالأسى، إذ تشعرهم بأن كل الأشياء المألوفة قد تتبدد فجأة، بعد أن نتركها لوقت قصير، ولذا عادوا إلى ريم حتى وإن كانت قد تركتهم، نظموا لها قصائد، قصّوا عنها القصص، وقرّروا بعد ذلك أن يجلس كل واحد منهم، كل ليلة، ليحكي لهم عن الأماكن المحتملة التي قد يعثروا فيها على ريم، في حال خروجهم، وفي أحد المساءات، قبل أن تشتد ظلمة الغرفة ويفقدوا ملامح بعضهم، قدّم لهم أحد رفاقهم مزقًا من قميص كتبت عليه أغنية، أغنية عنها أيضًا، حفظوا الأغنية سريعًا، ليستطيعوا إخفاء قطع القماش في أماكنهم السرية، وظلوا يغنونها ليلة بعد الأخرى، بأصوات حزينة ومشتاقة، ولم يعرف أي إنسان شيئًا عن الأغنية، إلا بعد أن عثروا عليهم جميعا، في مقبرة جماعية قرب ضفة نهر، وكانت الأغنية محمية بحرص، في كفّ كل واحد منهم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الرسالة: أتعبنا الموت

هو البياض