22-سبتمبر-2021

يوسا، أورويل، تودوروف

تخلص الأدب من الأيديولوجيا. طردها شر طردة، وها هو ينطلق خفيفًا مرحًا، محتفيًا بحريته المستعادة. ولكن، وكما يحدث عادة، فقد دفع المنتصر، لقاء نصره، ثمنًا باهظًا ربما فاق ذلك الذي دفعه المهزوم. على الأقل لقد خسر الحافز البطولي الذي غذاه طيلة المعركة، وإذ صار بلا عدو فقد صار أيضًا بلا هدف كبير، وفي اللحظات التي يعود فيها إلى نفسه ويكف عن التبجح، فهو سرعان ما يقف أمام سؤال مقلق يطال معنى وجوده.

كانت الأيديولوجيا خصمًا شرسًا، متحكمًا، لا يرضى بأقل من الهيمنة الكاملة، ولذلك فقد احتاج الأدب، كي يواجهها، إلى أن يكون متطرفًا وموسوسًا

كانت الأيديولوجيا خصمًا شرسًا، متحكمًا، لا يرضى بأقل من الهيمنة الكاملة، ولذلك فقد احتاج الأدب، كي يواجهها، إلى أن يكون متطرفًا وموسوسًا مع نزعة تطهرية كاسحة، وهكذا فعندما أزاح الأيديولوجيا فقد أزاح معها أشياء كثيرة ليست منها: الاهتمام بالعالم، العناية بالقضايا الأساسية التي لا تزال تؤرق البشر، والاعتراف بالسياسة كشأن حاضر في الوجود الإنساني ومتغلغل في كافة أشكاله..

اقرأ/ي أيضًا: الفصل الأول من رواية "زمن عصيب" لماريو بارغاس يوسا

وبعد أن كان البندول في أقصى اليسار ها هو يشطح إلى أقصى اليمين، دون أن يقف عند نقطة توازن معقولة.. كان بعض الأدب يؤدي مهمة التبشير الأيديولوجي، فصار أكثره منفصلًا عن الواقع، منشغلًا بذاته، مغلقًا على نفسه. يقول أشياء كثيرة دون أن يقول شيئًا مهمًا عن الحياة. ينشغل بالبهرجة والاستعراض الشكلاني، وصنع المفارقات المفرقعة، على حساب الرؤية النافذة والحدس المتبصر والأفكار الذكية العميقة..

ماذا يهم القارئ في نص مهجوس بالتقنية السردية والحذلقة اللغوية والألاعيب الأسلوبية؟ نص لا يلعب أيًا من الأدوار العظيمة للأدب العظيم: الكشف والإضاءة والتعرية والاحتجاج؟ نص يبدو موجهًا لفئة محدودة من القراء: أولئك الذين يرغبون في أن يصبحوا كتابًا؟!.

في كتابه "الأدب في خطر"، يروي تزفيتان تودوروف تجربته كطالب أدب في إحدى جامعات بلغاريا الشيوعية، (أواخر الخمسينات)، حيث كان الأدب يخضع للأيديولوجيا الماركسية، فـ"كانت النصوص الأدبية تقسم إلى أبيض وأسود، جيد ورديء. الأبيض الجيد هو ما يتوافق مع الماركسية ويدعمها، والأسود الرديء هو ما يخالفها".. وفي باريس، حيث حط تودوروف رحاله، سرعان ما وجد نفسه أمام مفهوم آخر للأدب، مفهوم مختلف تمامًا لكنه لا يقل تعنتًا وضيق أفق، ذلك أن نقاد البنيوية والتفكيكية كانوا قد نجحوا في ترسيخ تلك النظرة التي تعتبر الأدب مجرد تجربة جمالية مغلقة على نفسها، لا معنى لها خارجها ولا غاية إلا ذاتها. لقد تم إهمال كل ما يتصل بالمضمون من أفكار وقيم وتجارب اجتماعية أو نفسية.. وفي ظل هذا المفهوم، ولدت نصوص أدبية كثيرة لا تحفل إلا بألعاب التقنية الأدبية، دون أي اهتمام بتقديم وجهة نظر في العالم، أو رأي في الحياة.

وإضافة إلى سمة الشكلانية هذه، برزت سمة أخرى يسميها تودوروف بـ "الأنانة"، حيث يتركز اهتمام الكتاب على تقديم ذواتهم وإشباع أناهم المتضخمة الجائعة للاستعراض والوقوف تحت الأضواء.

ثم تأتي العدمية ومعها يغدو من المعيب الحديث عن أي معنى للنص، وإذا كان من معنى حقًا فهو أن "لا وجود لأي معنى".. وهكذا اكتملت الدائرة المطوقة للأدب، فصار أسيرًا للشكلانية والأنانة والعدمية.

وبإمكاننا إضافة سمة رابعة: رهاب السياسة، فبذريعة الارتقاء بالأدب عن أن يكون مجرد بوق دعائي أو أداة وعظ وإرشاد، جرى إهدار جزء كبير من نسيج الواقع، وصار من غير الجائز الحديث عن حرية أو عدالة أو استبداد أو مقهورين ومهمشين أو فلاحين فقراء أو سكان عشوائيات ضائعين..

يوسا: "الرسالة التي ينبغي على الأدب أن يؤديها هي رفض الواقع، برسم أشكال أخرى له، وإدراكه عن طريق إعادة بنائه"

في مقال شهير عنوانه "لماذا أكتب" تحدث جورج أورويل عن أربعة حوافز أو أهداف للكتابة، كان رابعها هو "الهدف السياسي": "الرغبة في دفع العالم في اتجاه معين؛ لتغيير أفكار الآخرين حول نوع المجتمع الذي ينبغي عليهم السعي نحوه.. لا يوجد كتاب يخلو من التحيز السياسي، الرأي القائل أن الفن ينبغي ألا يربطه شيء بالسياسة هو بحد ذاته موقف سياسي".

اقرأ/ي أيضًا: فيليب روث.. كابوس السيرة وغوايات الشهرة

أكثر سارتر من الحديث عن التزام ما للأدب، وعن أن الكتابة بإمكانها المساهمة في تغيير العالم، وقلة هم اليوم من يصدقون ذلك، واحد من هؤلاء يحمل اسمًا لامعًا، فماريو فارغاس يوسا لا يزال يؤمن بما قاله الفيلسوف الفرنسي. يقول يوسا في حوار صحفي: " لكنني، وإن كنت أنتقد سارتر بحدة، فما زلت أومن بإمكان تحول الكلمات إلى أفعال"، ويضيف: "إننا بحاجة إلى اليوتوبيا حاجتنا إلى واقع مختلف عن الواقع الذي نعيشه.. والرسالة التي ينبغي على الأدب أن يؤديها هي رفض الواقع، برسم أشكال أخرى له، وإدراكه عن طريق إعادة بنائه". ولكي يتسنى للأدب القيام بهذه المهمة عليه أولًا أن يعترف بوجوده في الواقع.

لا حياة للأدب في ظل الأيديولوجيا، ولكن لا حياة له كذلك إلا على هذه الأرض.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عبد الفتاح كيليطو وضرورية الندم الفكري

جوناثان غوتشل: كيف تجعل منا الحكايات بشرًا؟