20-يوليو-2020

الشاعر أحمد عبد الحسين

يصعب عليّ جدًّا أن أكون في هذا المقام اليوم. ففي تقديم شاعرٍ، ينبغي علينا أن نحاول إضاءةً ما، أمام منْ جاء يستمع له. لكنّي اليوم أمام شاعرٍ عصيٍّ عن أن يضاء، وأن تمسك إشارةٌ منه.

أحمد عبد الحسين شاعرٌ لا يكتب حين يكتب، بل يمحو، يمحو أيّ أثرٍ، يدلّ عليه أو دليلٍ، يقود له

أحمد عبد الحسين شاعرٌ لا يكتب حين يكتب، بل يمحو، يمحو أيّ أثرٍ، يدلّ عليه أو دليلٍ، يقود له. شاعرٌ ينتمي إلى حركة الحداثة، ولكنّه يكتب بلغةٍ قديمةٍ. يبدو لمنْ يقرؤه أنه إمامٌ، يضع العِمامة على رأسه، لكنّ قارئه سيخرج ملحدًا من نصّه. يتكلّم بلسان الخرافة ضدّ الخرافة والجهل. نصوصه تشبه عملية تحضير الجان، كأنّه حين عرف أن شيطان الشّعْر غير موجودٍ، وأنه كذبةٌ، أصابتْه خيبةٌ كبيرةٌ، ولم يعجبْه ذلك، فقرّر أن يقوم بتحضيره، فصارت نصوصه تشبه التّمائم والحجابات، وكأنّي بها مثل الذين يكرّرون اسم الشيطان ليحضر، ولكنّ شيطان الشّعْر لا اسم له، فكان على أحمد أن يجرّب الأسماء كلّها، أسماء الشياطين، أسماء الله، أسماء الملائكة، كلّ اسمٍ يمكن أن يقوده إلى الشّعْر، لأنّ أباه قال له مرّةً:

الاسـم بيتٌ، لا يمكن الدّخول إليه، لا من أعلى، ولا من أسـفل، لا من الأمـس، ولا من اليوم، لكنّنا، مع ذلك، نتلاطم فـيه، كما لو أنه وكرنا المكين، منبتـنا الذي لفرط اندكاكنا فيه، ننسـاه، أو لعلّه الفجاءة التي قبل أن نفهرسـها، تكون قد باشرتْ حفْرها في هوائنا القريـب.

اقرأ/ي أيضًا: حوار | الروائية عالية ممدوح: ما زلت أتلقى الدروس

ومن هنا، كلّ ما يكتبه أحمد هو حفْرٌ في الهواء، ولكنّ الهواء المحيط بأحمد كان هواءه الخاصّ، هواءً صلبًا، هواءً معدنيًّا، تظلّ آثار الحفْر عليه، ولا تمحى.

ينسب أحمد إلى جيل الثّمانينيّات العراقيّ، الجيل الذي سمّي بجيل الخرافة، جيلٌ كان عليه أن ينشأ ويظهر في الفترة من عام 1980 حتّى عام 1990 كما هي قواعد التّجييل الأدبيّ، لكنّ مشكلة ذلك الجيل عامّةً، أن هذه السنوات العشر من الزمن كانت قد غادرت العراق نفسه. وظلّ العراقيّون أنفسهم تحت رحمة المكان فقط، فجاءتْهم الحرب، لتأخذ مكان الزمان هناك، وتأخذ أيضًا كلّ ما يمكنه أن يؤرّخ للمكان. فأخذتْ من بين ما أخذت الشّعْر والزمن المفروض لظهورهم (الجيل) وأبقتْ عليهم هناك، إمّا أصواتٌ تنتصر للحرب وللمعركة، وإمّا أصواتٌ بلا صوتٍ تمامًا.

فرّ أكثر شعراء ذلك الجيل من العراق، ووجدوا زمنهم، لكنْ، بعد أن فقدوا مكانهم بالطّبع.

فرّ أحمد من الجنديّة، حكم عليه بالإعدام، فّر من العراق مشْيًا إلى إيران، ومنها إلى لبنان، ثمّ إلى سوريا، ثمّ إلى كندا، وفي هذا الهواء الصّلْب الذي يحيط به، كان أحمد يواصل حفْره، ويبحث عن أوانٍ له. ولكنّه كما يقول:

كلّما استجمعت رعب قلبي، وقلت بالحاضر الدّافق، أجْلوه، بالينبوع الذي ولد اللّحظة معي، رأيت أنّي جئت من قبل أو من بعد، وأنْ لا وقت لي يصلح أن أسمّيه الآن، فالآن فوات أوانٍ.

ربّما لهذا عاد بعدها للعراق مباشرة بعد سقوط الطّاغية صدّام حسين. ربّما لأنّه أدرك أنْ لا أوان له إلّا في أوان العراق، عاد هناك يحارب لأجل أن يعيد الزّمن إلى العراق، فيعود بذلك زمنه. عاد للعراق، عاد للمنبع، عاد ليعيد تشكيل قصيدته من جديدٍ. أليس صحيحاً أنّ الشّعْر لا يكتب إلّا من نقطة النّبع؟!

صحيحٌ أن أحمد في كلّ ما كتب، كان مكتوبًا من تلك النقطة. فهو ابن العائلة المتديّنة، ابن ناظم شعْرٍ ديْنيٍّ، ترك له حين وفاته مكتبةً كاملةً من كتب التراث الإسلاميّ، وهي قراءاته الأولى التي أسّستْ لسانه. في شبابه أيضًا، وفي أثناء هروبه من حكْم الإعدام، اشتغل أحمد كثيرًا مع حركاتٍ سياسيّةٍ إسلاميّةٍ، كونها المكان الوحيد الذي أعطى مجالاً للشباب المعارض للدكتاتوريّة في العراق، وحتّى في العالم العربيّ كلّه.  لكنّ التجربة الدّيْنيّة عنده لم تقنع الشاعر الذي في داخله، وربّما هي ما قادتْه إلى اللّايقين الذي تقطر به نصوصه. لم تقدّمْ له التجربة الدّيْنيّة التي أفرط فيها إجاباتٍ أمام قسوة ما يحدث في العراق، وأمام قسوة العالم. ولم يقدّمْ له العراق ولا العالم أيّة أجوبةٍ أمام هذه القسوة، بل زاده قسوةً على قسوةٍ. ربّما هذا ما دفعه للتّوجّه إلى التّصوّف، وبالطبع، لن يدخل شاعرٌ مثله التّصوّف من منطقة الدّرْوشة، بل سيكون العرفان هو الأنسب. يقول:

طفلٌ لاعبٌ باللّاهوت يجادل عن تأريخه في شقّ جدار

وجهٌ يطلّ من النّافذة باكياً:

تنفّست هواء الفجر قبل أن تلوّثه أنفاس العامّة

تنفّست هواء الفجر بعد أن لوّثتْه أنفاس العامّة

قـرأت كـتاب أصـول الفـقـه

ومحوت اسمي من بين الأسماء

لقد نجوت.

تجاربه هذه، قراءة التراث العربيّ والإسلاميّ والشّيعيّ تحديدًا، الدّين الاجتماعيّ والسّياسيّ والعرفان الصّوفيّ، ظلّتْ هي منابع الشّعْر عند أحمد، وهذا نراه في جميع نصوصه على مستوى اللّغة والأفكار التي تحاسب التّاريخ دائمًا، وتشكّك بيقينيّتها نفسها، المفردات الهاربة من كتب التراث، وكأنّها تمائم، حتّى بنية القصيدة لديه.. ولكنْ، والأهمّ من ذلك كلّه قدرته الهائلة على التأليف بين التراث والمعاصر، بل هضم المعاصر في قالبٍ تراثيٍّ، وكأنه يريد أن يقول إن المستقبل لم يحدثْ بعد.

قصيدة أحمد قصيدةٌ أنيقةٌ جدًا، ولها سطوةٌ وحضورٌ، لسانٌ قديمٌ يتحدّث عن الجديد، قصيدةٌ تشبه نصوص العارفين بالله، من كبار المتصوّفة، ولكنّ الشّعْر فيها درويشٌ مترفّعٌ عن الحياة، ومنشغلٌ بعشقه لله.

قراءة الدّين الاجتماعيّ والسّياسيّ والعرفان الصّوفيّ ظلّتْ هي منابع الشّعْر عند أحمد عبد الحسين

هي الكلام الأصل عنده، والذي أدْرجه في منعطف الكتابة، وحوّله إلى ماءٍ يجري معه، ويحرّك كتابته. لكنْ، يبدو أن هناك حركةً ثانيةً دخلتْ على كتابته، لتحوّل فعل الكتابة لديه إلى حركةٍ ثنائيّةٍ. وتلك الحركة هي اللّاحركة، هي القطْع، السّدّ الذي كان يوقف حركة الحركة الأولى.

اقرأ/ي أيضًا: عدنية شبلي في روايتها "تفصيل ثانوي".. الحكاية من هوامشها

ربّما يمكنني القول إن هذه الحركة الثانية التي تحرّك شعْر أحمد كانت خروجه من العراق، كان ذلك الزمن منذ عام 1980 إلى 1990 الذي لم يعشْه إلّا مكانيًّا. في تلك الفترة التي كان يجب فيها أن ينشر كتابه الأوّل ويدور به على الأصدقاء، ليهديه لهم في بلده، ويحتفلوا به، ويناقشوه فيه.

الكتاب الأوّل الذي عاد أحمد للعراق ليكتبه هناك مجدّدًا، ويستعيد بذلك زمنه المفقود.

 

  •  المقالة بالأصل تقديم للشاعر خلال قراءته الشعرية ضمن الأمسيات الإلكترونية التي تقيمها "مجلة براءات"

 

اقرأ/ي أيضًا:

صورة الشاعر

الشاعر الذي كتب بعد وفاته.. الشاعر الذي لا يزال يكتب