26-مارس-2019

تمثال للشاعر فرناندو بيسوا، مقهى برازيليرا في لشبونة (Getty)

"لستُ شاعرًا، أنا أرى وحسب". تلخّص هذه الجملة الأثرَ الشعريّ لـ ألبرتو كايرو، فالشعر عنده مسألة لا تختلف عن النظر، والشاعر، في هذا المقام، لا يعيد إنتاج العالم بمقدار ما يعيشه بالطريقة التي تعيشها عناصر الطبيعة بفعالياتها المختلفة؛ النهر في جريانه، والسماء في ازرقاقها وتراميها اللانهائي.

المفاجئ في قصائد كايرو التي جمعها ريس أن كثيرًا منها جاءت مؤرخة بعد وفاته

كايرو شاعر برتغاليّ. تقول سيرته إنّه قضى جلَّ حياته في قرية تقع على ضفة نهر التاجو، قرب العاصمة لشبونة. تفرّغ كليًّا لتأمل الطبيعة ومحاكاتها في قصائد بسيطة بساطةَ الوردة والشجرة والجدول، عميقةً عمقها كلّها.

اقرأ/ي أيضًا: غاستون باشلار وفرناندو بيسوا.. حياة حالمة في سبيل الإبداع

عاش حياة خاطفة. ولد عام 1889 وتوفي بالسلّ عام 1915، وخلال هذه السنوات القصيرة أصدر كتابًا شعريًا واحدًا أسماه "حارس القطيع". كما صدرت له "قصائد غير متجانسة" بإشراف الشاعر ريكاردو ريس (1887- تاريخ الوفاة مجهول). من فضائل ريس كتابته مقال عن معلمه الفذّ، قال فيه: "كل الشعراء الكبار بسطاء، وإذا ما بدو عسيري الفهم فلأن بساطتهم تحتوي مبادئًا جديدةً، تصورًا جديدًا عن الأشياء" (مجلة نزوى، العدد 35، 2003).

المفاجئ في قصائد كايرو التي جمعها ريس أن كثيرًا منها حملت تواريخ لفترة ما بعد وفاته. القصة بدت غامضة، ومع الوقت ستكتسي مزيدًا من الغموض، إلى حين الاكتشاف العظيم بأنه ما من أحد اسمه ألبرتو كايرو، كما ما من أحد اسمه ريكاردو ريس. كلاهما شاعرٌ متوحّد اسمه فرناندو بيسوا. بيسوا الذي سيظلّ يكتشف التاريخ اللاحق كيف ظلّ يخلق شعراء يجعلهم مستقلين عنه، كلّما تلبّسه شيطانُ أحدِ أنداده، أو قرائنه، أو بدلائه، أو أقنعته؛ وقّعَ قصيدة بذلك الشاعر اسمًا وأسلوبًا، ثم يتحوّل، هو نفسه، إلى مجرد واحد بين كوكبتهم.

لأجل هذا بيسوا شعراء كثيرون، أو شعريّات كثيرة.

يقول أوكتافيو باث: "كايرو، ريس، وكامبوس.. هم أبطال رواية لم يكتبها بيسوا أبدًا". يأتي هذا الكلام في مقال بالغ الأهمية عنوانه "المولود من لدن ذاته" (راجع: مختارات فرناندو بيسوا، ترجمة المهدي أخريف، المشروع القومي للترجمة 1997). جوهر علاقة بيسوا وآخروه بحسب باث هو: "علاقة بيسوا بأنداده لا تتطابق مع تلك العلاقة التي تجمع الكاتب المسرحي أو الروائي بشخصياته. إنه ليس مخترع شخوص – شعراء، بل مبدع أعمال لشعراء. الفارق إذًا أساسيّ". ثم يوزّع الشعراء هكذا: "ريس يؤمن بالشكل، كامبوس بالإحساس، بيسوا بالرموز، أما كايرو فلا يؤمن بشيء".

كايرو لم يتلق أي تعليم. إنه صورة الشاعر الإنسان الذي تخلقه الطبيعة ليكتب شعرًا في تلك العلاقة الأزلية معها قبل الدين والثقافة: "أنا شاعر/ لأن أقل نظراتي تملؤني بالأحاسيس/ ولأن أصغر صوتٍ، من أينما جاء/ يبدو كأنه يحدثني". (حارس القطيع، ترجمة إسكندر حبش، دار الجمل 2007).

يذوب كايرو بعفوية في الطبيعة، فيكتبها بطبيعيّة. الشاعر كالنهر، كالعصفور، كالتراب، أو فلنحذف إداة التشبيه ولنعد صياغة الجملة بالشكل الذي تستحقه: الشاعر نهر، عصفور، تراب. بسبب هذا سيكتب: "لأنني على قدر ما أراه/ لا على قدر حجمي".

الشاعر الحاضر كالزمن، لا حاجة له إلى ثقافة، أو أسماء، فالأسماء هي الأشياء ذاتها في فلسفة وجودها الحرّة

في حالة كايرو خلق بيسوا نقيضَه، الشاعرَ الحاضر كالزمن، من لا حاجة له إلى ثقافة، أو أسماء. الأسماء هي الأشياء ذاتها في فلسفة وجودها الحرّة. لا تماثلَ عادة ما بين الكلمات والأشياء، أو الكلمات والعناصر، لذا يكتب كايرو الصورة أو الطاقة كما لو أنه مكلّف بمهمة كتابة الصمت: "الجمال هو الاسم الذي نعطيه لغير الموجود/ الذي أعطيه للأشياء بدلًا من المتعة/ التي تعطيني إياها".

اقرأ/ي أيضًا: رواية "أورشليم".. تاريخ الرعب الإنساني

أمام هذه الالتباسات الكبيرة، بين الحقيقة والواقع، بين المُخترِع والمُخترَع، يبدو كتاب "حارس القطيع" كتابًا ولد من تلقاء نفسه، كما نهض جبل أو كما انبثقت زهرة؛ كتابًا جرّبت الطبيعة نفسها كتابته، واختارت له ذلك "اللا أحد" الذي نعرفه باسم عابر هو ألبرتو كايرو. لا شيء أكيد غير هذا، لا سيما وأنّ القصيدة تقول: "أعبر وأبقى مثل الكون".

 

اقرأ/ي أيضًا:

فرناندو بيسوا.. مذهب حدسي في الكتابة البوليسية

"يوميات" بيسوا.. أن تعيش حياة شخص آخر