04-نوفمبر-2019

استعادت الانتفاضة اللبنانية مشهديتها (Getty)

إعداد: أحمد خواجة وأحمد عابدين

دخلت الانتفاضة اللبنانية في الأيام الأخيرة مفترق طرق حاسمًا، وبات الوضع السياسي والأمني في البلاد مفتوحًا على كافة الاحتمالات، خاصة بعد استقالة سعد الحريري. وقد نجحت التحركات الشعبية بتحقيق الكثير من المكاسب، وبعد نجاح الشارع في إسقاط الحكومة، باتت كرة النار في يد السلطة المطالَبة اليوم بتأليف حكومة جديدة. وقد ظهرت الخلافات بين التيارات الأساسية حول شكل الحكومة وطبيعتها، وبدأت الخلافات بين أفرقاء الحكم تخرج إلى العلن.

دخلت الانتفاضة اللبنانية في الأيام الأخيرة مفترق طرق حاسم، وبات الوضع السياسي والأمني في البلاد مفتوحًا على كافة الاحتمالات

 التمسك بخيار الشارع رغم استقالة الحكومة

لم تكد الحياة تعود تدريجيًا إلى طبيعتها في المدن اللبنانية، مع إعادة فتح المصارف والمدارس ومعظم الطرق الرئيسية، حتى تمكن المتظاهرون، في وقت متأخر من ليلة الإثنين، من قطع طرق وإغلاق شوارع عديدة، في استعادة سريعة لزخم الأيام الأولى من الانتفاضة، وهو ما بدا أنه خيب آمال السلطة، التي راهنت على عامل الوقت.

اقرأ/ي أيضًا: في الشارع والسوشيال ميديا.. فنانون لبنانيون شاركوا في الانتفاضة

وتمكن المحتجون في الشوارع اللبنانية من قطع جسر الرينغ والزوق وجل الديب شمال بيروت، بالإضافة إلى طرق أخرى في البقاع وعكار وصيدا. كما دعا المتظاهرون إلى الإضراب العام، اليوم الإثنين، ومحاصرة شركات وبنوك كانت تنوي فتح أبوابها.

 وبالتزامن مع دعوات التيار الوطني الحر للتظاهر في بعبدا صباح الأحد دعمًا لعون، كان الناشطون يؤكدون على أهمية حشد جمهور غفير يوم الأحد، للتأكيد على استمرار الانتفاضة بالقوة والزخم نفسه. وقد أطلق الناشطون على هذه التظاهرة تسمية "أحد الوحدة".

بيروت تستعيد مشهدية الأيام الأولى

بدأت الوفود بالتوجّه إلى الساحات الرئيسية في بيروت وطرابلس وصيدا والنبطية قبل ساعات من الموعد المحدّد. المتظاهرون أكدّوا على رفضهم لخطابات الزعماء في الأيام الأخيرة، ومن ضمنها خطاب رئيس الجمهورية. وقد توسعت مطالب المحتجين ودخلت مطالب أخرى، كرفض دفع فاتورة الهاتف بالدولار، والمطالبة بتخفيض أسعار الإنترنت وتحسين خدمتها.

رفض المتظاهرون في بيروت الانجرار لمنطق "شارع في وجه شارع"، وهي الصورة التي حاول العونيون تكريسها من خلال تظاهرتهم الصباحية، وأصروا على أن انتفاضتهم باسم الشعب اللبناني كله، وبأن مطالبهم تستفيد منها كافة الشرائح.

وقد نجحت ساحات بيروت في استعادة مشهدية الأيام الأولى، وغصت ساحتا الشهداء ورياض الصلح بالمتظاهرين حيث اتصلت الساحتان ببعضهما البعض جراء الحشود الغفيرة. وقد وضع المتظاهرون مرآة كبيرة في وسط الساحة كتب عليها " أنا قائد الثورة"، في إشارة إلى أن كل متظاهر هو قائد لهذه الثورة، وأنها تمثل الجميع، في رد مبطن على اتهام بعض الزعماء للمتظاهرين بأنهم يأتمرون بأوامر خارجية تضع الأجندات لهم. كما علق بعض الناشطين مشانق رمزية لأنفسهم في ساحة الشهداء، في إشارة إلى أنهم يفضّلون الموت على العيش في ظل نظام طائفي.

من طرابلس إلى النبطية وصور.. الصورة نفسها

اتجهت وفود من طرابلس للمشاركة في تظاهرات بيروت الأحد، لردّ التحية للمتظاهرين الذين أتوا من كل المناطق ليل السبت، للمشاركة في تظاهرات ساحة النور في طرابلس. مع العلم أن تظاهرات طرابلس جذبت كل الأنظار إليها، بسبب زخمها وقوتها وإصرارها على إظهار قيم التنوع والانفتاح وتقبل الآخر، في وجه الذين حاولوا وسمها بالمذهبية والتطرف، على مدار السنوات الأخيرة. ولم يختلف مشهد ساحة النور في طرابلس الأحد عن الأيام الماضية، فغصّت الساحة بالمتظاهرين الذين رفعوا الأعلام اللبنانية وأعادوا التأكيد على مطالبهم.

وبالرغم من المضايقات التي تعرضوا لها في الأيام الأخيرة، عاد المتظاهرون في الجنوب للتظاهر مرة أخرى، فشهدت ساحة النبطية تظاهرة كبيرة عصر الأحد شارك بها الآلاف، كذلك شهدت ساحة العلم في صور تظاهرات تخللتها حلقات دبكة ورقص، وكذلك بلأمر بالنسبة لكفر رمان التي كانت تظاهراتها علامة فارقة في الأيام الأخيرة، ليثبت بالدليل الملموس أن محاولات وأد التظاهرات في هذه المناطق، وكمية الشائعات ومحاولات التهويل والتخوين لم تأتَ ثمارها.

ولم يختلف المشهد في صيدا، مسقط رأس سعد الحريري، حيث غصت ساحة إيليا بالمتظاهرين، الذين جددوا مطالبتهم بضرورة التسريع بتشكيل حكومة مستقلة، ورفضوا المماطلة في الدعوة لاستشارات نيابية. وقد كان لافتًا تجمع مئات المتظاهرين في ساحة بعلبك مؤيدين مطالب المنتفضين.

في يومها الـ18، نجحت الانتفاضة اللبنانية في امتحانها الكبير، وأعادت ملء الساحات من جديد، ليثبت المتظاهرون لكل من راهن على تعبهم، أنهم مستمرون حتى تحقيق مطالبهم، وأن استقالة سعد الحريري لم تكن كافية، وأن المطلوب هو إسقاط المنظومة الفاسدة بأكملها، وإعادة الأموال المنهوبة. مع الإشارة إلى أن المتظاهرين أعلنوا عن إضراب عام وعصيان مدني اليوم الإثنين.

هنا بعبدا: مظاهرات مؤيدة بشعارات معارضة

عشرات الحافلات ومئات السيارات وآلاف كثيرة من المتظاهرين ملأوا طريق الأوتوستراد والشارع المؤدي إلى القصر الجمهوري في بعبدا، حضروا لتأييد رئيس الجمهورية وصهره رئيس التيار الوطني الحُر، رفعوا شعارات شبه متطابقة للشعارات التي رفعها معارضوهم، حتى لا تكاد تفرق بينهم إذا نحيت صور الرئيس وصهره جانبًا.

تجمعات مناصرة للسلطة في بعبدا يوم الأحد 3 تشرين الثاني/نوفمبر (ألترا صوت)

كان ذلك المشهد قد بدأ مساء السبت، عندما تجمع المئات من أعضاء التيار الوطني الحُر أمام القصر الجمهوري لتأييد رئيس الجمهورية، داعين لمظاهرة الأحد تحت شعار "يا أهل الوفا"، وهي السهرة التي كانت أشبه بالسهرة العائلية، حضرها وزراء حكومة سعد الحريري المُستقيلة التابعون للتيار الوطني الحُر، ونواب التيار في مجلس النواب، إلا أن المشهد كان أضخم حضورًا منذ ساعات صباح اليوم الأحد، حيث وصلت حافلات تحمل شعار التيار وصور الرئيس وصهره قادمة من مناطق نفوذ التيار ومناطق أخرى بعيدة.

"جئنا لتأييد مطالب الثورة ودعمها ولم نأتِ في مواجهة أحد"، كان هذا هو تعليق أحد المتظاهرين المرتدين لقميص يحمل شعار التيار الوطني الحُر وصورة رئيس الجمهورية، ليُكمل قائلًا "ولكن عبر المؤسسات الرسمية والدستورية وليس عبر إغلاق الطرقات والتخريب الذي يقوم به الزعران".

لم يترك المتظاهرون المؤيدون شعارًا رُفع في مظاهرات المُعارضة إلا ورفعوه في بعبدا، كشف سرية الحسابات المصرفية، مكافحة الفساد، الدولة المدنية، حتى شعار "كلن يعني كلن" رفعه المؤيدون للرئيس بعد أن جعلوه في خدمة التيار الوطني، قائلين إن "عون رئيسهن كلن يعني كلن"، حتى الأغاني التي كانت ترتفع في ميادين المعارضة هي نفسها هنا في القصر، فصوت جوليا بطرس، زوجة وزير الدفاع، عبر أغنيتها الشهيرة "نحن الثورة" كانت حاضرة بقوة عبر مكبرات الصوت وحناجر المتظاهرين.

توالت الكلمات المؤيدة للرئيس عبر المنصة الرئيسية منذ الصباح وكان أبرزها كلمة السيدة "جيهان خوري" التي اشتهرت مؤخرًا باسم "مبسوطة"، والتي راجت بسبب مقطع فيديو قديم لها وهي تُعبر عن سعادتها بانتخاب ميشال عون رئيسًا للجمهورية، ذلك الفيديو الذي أُعيد انتشاره بقوة على مواقع التواصل الاجتماعي مع موجة سُخرية منها وصل حد الذهاب تحت بيتها والهتاف "بعدك بعدك مبسوطة؟"، والذي اعتبره كثيرون موجة تنمُر ضدها، فخرجت اليوم عبر مظاهرة التأييد لتؤكد أنها لا تزال سعيدة بوجود رئيس الجمهورية ميشال عون.

جبران باسيل.. الحاضر دائمًا في المعارضة والتأييد

ربما لم يحظ أحد من رموز الحُكم في لبنان بحضور كحضور جبران باسيل، وزير الخارجية ورئيس التيار الوطني الحُر، سواء في هتافات المعارضين أو صيحات المؤيدين، فالرجل الذي كان الهتاف الأوسع انتشارًا في الانتفاضة يذكر اسمه مقرونًا بشتائم، حضر بنفس القوة في هتافات مؤيديه.

وبينما كان البعض يرفع صوره ويهتف باسمه تأييدًا له، كان هو حاضرًا وسط جموع مؤيديه الذين ألهبهم بخطابه الذي أوضح خلاله أن النواب والوزراء التابعين لتياره قد رفعوا السرية عن حساباتهم، بينما الآخرون لم يفعلوا، وأنه طالب برفع السرية والحصانة عن جميع المسؤولين، وأنه مؤيد لشعار "كلن يعني كلن" بمعنى أن الجميع يجب أن يكون تحت طائلة الرقابة والمساءلة وليس أن "كلن" فاسدون أو زعران (بلطجية)، مؤكدًا على نضاله ضد الفساد هو وتياره وحدهم، واعدًا الجموع التي حضرت لتأييده بمواصلة النضال ضد الفساد، حسب زعمه، الذي قال بأن تعميمه على الجميع يساعد على حماية الفاسدين الحقيقيين.

كان واضحًا أن خطاب رئيس الجمهورية وزعيم تيار الـ"عونيون" الأخير قد نجح في استقطاب وحشد وتعبئة التيار نفسيًا بقوة، فالجميع هنا في بعبدا اتفق على أن مطالب الثوار مُحقة ولكنها يجب أن تُنفذ عبر المؤسسات بقيادة الرئيس وبالضغط على ممثلي التيارات الأخرى في مجلس النواب للموافقة عليها، وأن حكومة التكنوقراط تبدأ برئيس حكومة من خارج الأحزاب السياسية، وإذا كان هناك تمثيل حزبي وسياسي فيها فأول الحاضرين يجب أن يكون زعيم أكبر كتلة نيابية، والمقصود هنا جبران باسيل زعيم تكتل "لبنان القوي" صاحب العدد الأكبر من النواب داخل البرلمان.

صورة من التظاهرات المناصرة لميشيل عون في بعبدا يوم الأحد 3 تشرين الثاني/نوفمبر (ألترا صوت)

لم ينس كثيرون من الحاضرين هنا ذكر سمير جعجع، رئيس حزب القوات اللبنانية، المنافس الأقوى للتيار الوطني الحُر داخل أتباع الدين المسيحي في لبنان، والذي اتهمه البعض بالتحريض ضد الرئيس. "جئنا ضد مظاهر الفلتان وضد قطع الطرقات من جانب زعران القوات"، هكذا عبّر "بول" أحد المتظاهرين القادمين من منطقة جبيل بمحافظة جبل لبنان عبر إحدى حافلات التيار، بينما رددت سيدة أخرى شعارات طائفية، قائلة إ، "جعجع خان المسيحية وخان لبنان كرمال يكون رئيس جمهورية، وما عمره هايكون رئيس جمهورية".

ربما لم ينافس أحد عون في هتافات المؤيدين مثلما نافسه الهتاف لقوات الجيش اللبناني، وكان لافتًا أيضًا حضور عدد من المؤيدين وهم يرتدون زيًا مُشابهًا للزي العسكري اللبناني، كما حضر بعض من العسكريين المتقاعدين لتأييد الرئيس وتذكيره بمطالبهم التي نزل بعضهم في مظاهرات المعارضة من أجلها أيضًا.

اتجهت وفود من طرابلس للمشاركة في تظاهرات بيروت الأحد، لردّ التحية للمتظاهرين الذين أتوا من كل المناطق ليل السبت، للمشاركة في تظاهرات ساحة النور في طرابلس

وجاءت خاتمة التظاهرة في الساعة الثانية ظهرًا بكلمة لرئيس الجمهورية ميشال عون، الذي عبر فيها عن شكره للذين خرجوا لتأييده، مؤكدًا على أن هذه المُظاهرة ليست ضد مُظاهرات أخرى، وأنه لا يجب أن يكون هناك شارع ضد شارع وساحة ضد ساحة، وأن التفاف اللبنانيين حول وطنهم هو السبيل للخروج من الأزمة، مُعبرًا عن حبه للجميع بالشعار الذي حملته الانتفاضة قائلًا "بحبكن كلن يعني كلكن".