13-يوليو-2020

جزء من عمل نحتي لـ معتصم الكبيسي/ العراق

من المحتمل أن الكثير من القراء عربًا وغير عرب في منطقتنا، عندما قرؤوا جين أوستن، أو جورج أورويل، والأدب الروسي عمومًا، أصابهم ما يمكن تسميته: صدمة معرفية! إذ، كيف لهم أن يتخيلوا حياة قائمة على الجليد، أو ضرورة حياتية في الحاجة الدائمة لتناول كوب من الشاي الساخن؟ يمكن الاعتقاد أن رواية مثل "أغاغوك" للكندي إيف تيريو التي تجري أحداثها في الأسكيمو، في كوخ ثلجي، ستكون أشبه بالأسطورة صعبة الفهم بالنسبة لسكان القارات الترابية.

نحن لا نقرأ ثقافة الآخر لنتعرّف إليه فحسب، بل لنتعرّف إلى أنفسنا أيضًا

تحتفظ الذاكرة الثقافية، وربما الإنسانية، بمنظر السود وهم يُقتادون، كالقطعان، تحت جَلدٍ شديد الوحشية بسياط البيض، ليعملوا، تحت طائلة الذبح من الوريد إلى الوريد، في منازلهم ومزارعهم حفاة، عراة حتى بلا ورقة توت! وذلك وفق ما قدمه ذات يوم مسلسل شهير اسمه: "جذور" إلى العالم المتحضّر. ونحتفظ بصدمتنا المعرفية من أن شيئًا كهذا حدث فعلًا في العالم.

اقرأ/ي أيضًا: الكتابة الشجرية والكتابة العشبية

كان من الصعب تخيل كل ذلك، فنحن -شعوب المنطقة- لم يكن لدينا مناطق جليدية سيعيش فيها بشر، ولم تكن البرودة في مناخنا تتطلب حاجة دائمة لاحتساء كوب من الشاي.

كان الأمر، إذًا، أننا لم نعرف ثقافة، أو ثقافات، الآخر.

بعد أن تعهّدت التّرجمة بجعلنا نعرف، نسبيًا، ثقافة، أو ثقافات الآخر، تطورت البنية المعرفية لدينا إلى درجة بتنا معها نقرأ عاداتٍ لشعوب تسمى "بدائية"، ولا نشعر بصعوبة في تخيّل الأمر. بل أكثر، بتنا نشعر أننا نعيش مع تلك الشعوب في منزل واحد. وهذا دليلٌ على أن التّرجمة ليست معنية بنقل ثقافة الآخر فحسب، بل بتحويلها ودمجها في الثقافة الوطنية، حتى بات من الصعب البحث عن جذور معينة للثقافة، وقد عزّز ذلك وجود كتّاب من أصول مختلفة ومختلطة في العالم يكتبون بلغات غير لغاتهم.

وبعد أن بقيت الولايات المتحدة الأمريكية خصوصًا، والقارة الأوروبية عمومًا، تفرض توجهاتٍ معينة للتّرجمة، غابت معها الثقافات الملونة، وحضرت، على نحو جنوني، الثقافة "البيضاء" الأمر الذي جعل وجود مثقفين كولونياليين في قلب الأراضي والثقافة "البيضاء" مثل هومي بابا، وتوني موريسون، وسلمان رشدي، وإدوارد سعيد، وغيرهم... أمرًا مثيرًا لقلق كتّاب ومنظّري وسياسيّي تلك القارات الذين يعتبرون "العرق" الأبيض متفوقًا.

لو لم يكن الأمر هكذا، لو لم تكن الترجمة تحويلًا ثقافيًا ولغويًا ومعرفيًا، كيف نفسر، إذًا، ما قاله سارتر عن "الغريب" لكامو من أنه كافكا وقد كتبه همنغواي! وقد تعجّب بلانشو مع الفرنسيين "للتأثر الذي أحدثه كتّابهم الواقعيون (خصوصًا موباسان) على كتّاب أجانب يظهرون أبعد ما يكونون عن الواقعي. وهكذا نتعجب، يتابع بلانشو، عندما نعرف أن فلوبير كان معلّمًا لكافكا".

سوف نعرف، الآن، أن ذلك ممكن. إذ، لم تعد ثمة ثقافة أجنبية وأخرى وطنية منفصلتان بسور الصين العظيم. ولم يعد مجديًا، على سبيل المثال، البحث عن أصل عربي لألف ليلة وليلة، بعد أن تحولت، بفعل الترجمة، إلى ملكية مشتركة للجنس البشري.

لم تعد ثمة ثقافة أجنبية وأخرى وطنية منفصلتان بسور الصين العظيم

هكذا، نحن لا نقرأ ثقافة الآخر لنتعرف إليه فحسب، بل لنتعرف إلى أنفسنا أيضًا.

اقرأ/ي أيضًا: دموية الأخوين غريم والنزعة العضوية لدى جوزيف بويز

لكن المحزن والمثير أن الترجمة وإن عرّفت العالم على بعضه وعملت شيئًا أقرب إلى الإدماج الثقافي، لكنها لم تمنع المجازر. عرّفتنا الترجمة على ما تم ارتكابه قديمًا، وتعرّفنا الكاميرا الآن على ما يرتكب مباشرة على الهواء، لكن الأمر غير متوقف على المعرفة، بل على السياسة، قبل الترجمة وبعدها، وقبل الكاميرا وبعدها أيضًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

سورين كيركغارد في سيرته: "أنا فيلسوف الفرد"

ثلاث قصائد أمريكية: اغفروا لي مَوت آخر الفهود الجميلة