06-أغسطس-2021

أبو القاسم الشابي وديوانه

ألترا صوت – فريق التحرير

سُميت هذه القصيدة باسم "نشيد الجبار" أو "هكذا غنى بروميثيوس"، وتعد من أشهر قصائد الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي (1909 - 1934).

استعار الشابي في هذه القصيدة شخصية بروميثيوس، سارق النار من الآلهة في الأسطورة الإغريقية، لأنه يمثّل الثورة والتمرد بالرغم من كل الألم الذي ينوء به. وعلى هذا تغدو القصيدة سردية الإنسان لاكتشافه منابع القوة في أعماقه، التي أنقذته من الصغائر ورفعته إلى مستوى عال من القوة والثبات.

لم يعش الشابي طويلًا، وعانى نفسيًّا وجسديًا في مروره القصير والسريع في الحياة، إلا أنه ترك أثرًا شعريًا وثقافيًا لا يزال راسخًا بقوة عربيًا، وليس أدلّ على ذلك من تحول أحد أبياته شعارًا للثورات العربية.


سأعيشُ رغْم الدّاء والأعْداءِ

كالنّسْر فوق القمّة الشّمّاءِ

 

أرْنو إلى الشّمْس المضيئّة.. هازئًا

بالسُّحْب، والأمطار، والأنواءِ

 

لا أرمقُ الظلّ الكئيب.. ولا أرى

ما في قرار الهوّة السوداءِ

 

وأسيرُ في دُنيا المشاعر، حالمًا،

غردًا- وتلك سعادةُ الشعراء

 

أُصغي لموسيقى الحياة، ووحْيها

وأذيبُ روح الكون في إنْشائي

 

وأُصيخُ للصّوت الإلهيّ، الّذي

يُحيي بقلبي ميّت الأصْداءِ

 

وأقول للقدر الذي لا ينْثني

عن حرب آمالي بكل بلاء:

 

لا يطفئ اللهب المؤجّج في دمي

موجُ الأسى، وعواصفُ الأرْزاءِ

 

فاهدمْ فؤادي ما استطعت، فإنّهُ

سيكون مثل الصّخْرة الصّمّاءِ

 

لا يعرفُ الشكْوى الذّليلة والبُكا،

وضراعة الأطْفال والضُّعفاءِ

 

ويعيشُ جبّارًا، يحدّق دائمًا بالفجْر،

بالفجر الجميل، النّائي

 

واملأْ طريقي بالمخاوف، والدّجى،

وزوابع الاشْواك، والحصْباءِ

 

وانشُرْ عليْه الرُّعْب، وانثُرْ فوْقهُ

رُجُم الرّدى، وصواعق البأساء

 

سأظلُّ أمشي رغْم ذلك، عازفًا

قيثارتي، مترنّمًا بغنائي

 

أمشي بروحٍ حالمٍ، متوهّجٍ

في ظُلمة الآلام والأدواءِ

 

النّور في قلبي وبين جوانحي

فعلام أخشى السّير في الظلماءِ

 

إنّي أنا النّايُ الذي لا تنتهي

أنغامُهُ، ما دام في الأحياءِ

 

وأنا الخضمُّ الرحْبُ، ليس تزيدُهُ

إلا حياةً سطْوةُ الأنواءِ

 

أمّا إذا خمدتْ حياتي، وانْقضى

عُمُري، وأخرست المنيّةُ نائي

 

وخبا لهيبُ الكون في قلبي الذي

قدْ عاش مثل الشُّعْلة الحمْراءِ

 

فأنا السّعيدُ بأنني مُتحوّلٌ

عنْ عالم الآثام، والبغضاءِ

 

لأذوب في فجر الجمال السرمديّ

وأرْتوي منْ منْهل الأضْواءِ

 

وأقولُ للجمْع الذين تجشّموا

هدْمي وودُّوا لو يخرُّ بنائي

 

ورأوْا على الأشواك ظلّي هامدًا

فتخيّلوا أنّي قضيْتُ ذمائي

 

وغدوْا يشُبُّون اللّهيب بكلّ ما

وجدوا.. ليشوُوا فوقهُ أشلائي

 

ومضُوْا يمدُّون الخوان، ليأكُلوا

لحمي، ويرتشفوا عليه دمائي

 

إنّي أقول ـ لهُمْ ـ ووجهي مُشْرقٌ

وعلى شفاهي بسْمة اسْتهزاء:

 

إنّ المعاول لا تهدُّ مناكبي

والنّار لا تأتي على أعْضائي

 

فارموا إلى النّار الحشائش، والعبوا

يا معْشر الأطفال تحت سمائي

 

وإذا تمرّدت العواصفُ، وانتشى

بالهول قلْبُ القبّة الزّرقاءِ

 

ورأيتموني طائرًا، مترنّمًا

فوق الزّوابع، في الفضاء النائي

 

فارموا على ظلّي الحجارة، واختفوا

خوْف الرّياح الْهوج والأنواءِ

 

وهُناك، في أمْن البُيوت، تطارحُوا

عثّ الحديث، وميّت الآراءِ

 

وترنّموا ـ ما شئتمُ ـ بشتائمي

وتجاهرُوا ـ ما شئتمُ ـ بعدائي

 

أما أنا فأجيبكم من فوقكم

والشمسُ والشفقُ الجميلُ إزائي:

 

منْ جاش بالوحْي المقدّس قلبُه

لم يحتفلْ بفداحة الأعباءِ

 

اقرأ/ي أيضًا:

راينر ماريا ريلكه: خمسة أناشيد

حافظ إبراهيم: اللغة العربية تنعى حظّها بين أهلِها