20-يناير-2017

محمود صبري/ العراق

فوقَ التلَّة، عبرَ ذلكَ الأفُقِ اللامرئيّ البعيد، يتناهى إلى سمعِ الوالدة نبأ وفاة الشيخِ الأحمَر، الكلُّ غارقٌ في الضباب، صوتُ العجوزِ ينسابُ كسيلٍ قويّ: "الغابَةُ غارقةٌ في الدماء، والليلُ يبدو أشدَّ كرمً منكُم أيُّها الريفيّونَ الأغبياء، الضباب أرحمُ من قلوبكُم العمياءَ ولا أحدَ يتذكَّرُ محاسِنَ الشيخِ الأحمَر".

عبرَ النَّافذة يسترقُّونَ السمع وليسَ من مجيبٍ لذلكَ النواحِ القريب، شيءٌ ما كذاكرةِ طفلٍ غضِّ الخيال يبدو جليًّا: قتلوا الشيخَ الأحمَر وهو يربتُ على كتفِ مراهقةٍ مسحورَةٍ كانت تهوى اللَّعِبَ بالدُّمى!!

"وما شأني أنا، فليمُت الجميع"، هكذا يصرخُ الأبُ من المرحاض وصوتُ الماءِ يطفو على كلِّ صوتْ، "سيأتيكُم يومٌ تشربونَ الماءَ من أباريقِ المراحيض النتنة كالكلاب، لا، الكلابُ وفيَّةٌ، إنَّها لا تفعلُ ذلك"، يضيفُ الأبُ دونما رحمةٍ في تهجيتهِ للحروفْ كاملَةً حرفًا حرفًا وهو يحرِّكُ يديه باحثًا عن الحجرِ لينظِّفَ بقايا تغوّطهِ العميق، مُحدِّثَاً نفسه: الأحجارُ هذهِ أشرف منكُم.

تبدو العائلةُ الريفيَّة في ذلك المشهَد الغرائبيّ مثلَ قطعةٍ لروايةٍ سحريَّة تشبهُ الكوابيس في سطورها وسطوتها، لا أحد يعي ماذا يحصُل في الخارج، صوتُ العجوزِ يرتفعُ شيئًا فشيئًا: لقد قتلوا الشيخَ الأحمَر وهو يدافعُ عن سحركُم أيُّها الخَوَنَة، ماتَ الشيخُ الأحمر وهو يدقِّقُ في ذكرياتِكُم، بيتًا فبيتًا، هبّوا إليهِ، إلى الروحِ النقيَّةِ، هبّوا إلى الشجرةِ العُظمى على مدخَل القرية.

/

مدخلُ القريَةِ، شيءٌ ما يشبهُ الدخولَ إلى مسرح، كادرٌ مغطَّى بأشلاءِ جثثٍ، بينهم جثَّة الشيخ الأحمَر، يتقدَّمُ "فارو" القارئُ الأبرع للقرآن في كلِّ القرية، يقلِّبُ جثَّة الشيخ الأحمر فاحصًا الملامحَ بدقَّةٍ عجيبة، يهزُّ رأسهُ متأسِّفًا وكأنَّهُ اكتشفَ للتوِّ شيئًا مريعًا: "لقد قتلوهُ، لم أشكّ لحظةً في أنَّهَم سيقتلونَه"، ومن ثمّ ملتفتًا إلى العدد القليلِ من البشر الواقفينَ كالدمى: نعم، قتلوهُ أيُّها الأوباش وحلَّتِ اللعنةُ علينا، ماذا ستفعلونَ الآن؟

لا أحدَ يتفوَّهُ بكلمةٍ، تكادُ تكونُ ملامحُ الجميعِ مدهوشَةً وكأنّ خرابًا ما يرفرفُ في الطريق، "اقطفوا أزهارَ الأقحوان واطحنوهَا، الشرُّ قادمٌ أيَّها الريفيّون، إنّي أُبصرهُ، اقطفوا الأقحوانَ واهربوا كي لا تموتوا"... هكذا يصرخُ "فارو" وهو يلطمُ وجههُ بقسوة، لا أحدَ يعي ما يحصُلْ، فقط طفلٌ أشقرٌ صغير واقفٌ يتأمَّلُ المشهدَ مبتسِمًا ومن ثمّ يديرَ ظهرهُ ككهلٍ ويمضي نحوَ الأفقِ البعيد.

/

صباحٌ غرائبيّ، لا يشبهُ أيًّا من الصباحاتِ العتيقَةِ للقريةِ البعيدة، لا إنسَ يمشي بينَ الأزقَّة، لا دلالة ما على الحياة.

أينَ "بوُر"؟ تقولُ الوالدةُ للأبِ المستلقي على السريرِ كجثَّةٍ هامِدة، يستيقظُ موبِّخًا: "وأين سيكون ابنكِ "بوُر"، إنَّهُ ليسَ طفلًا عاديًّا يا امرأة، ألف مرَّةٍ قلتُ لكِ إنَّهُ ابنٌ للشياطين".

تمتعضُ الأمّ: "وأيُّ شيطانٍ ركبك وأنتَ تركبُني في تلكَ الليلةِ السوداء؟" تقولُ..

/

في هذا الفضاءِ المبعثَر يسيرُ "بوُر" بسنواتهِ القليلة وكأنَّهُ رجلٌ في الثمانين، كانَ "بوُر" في ليلِ ولادتهِ كهلًا، هكذا أسرَّ الشيخُ الأحمر ذات يومٍ لوالدهِ، كانَ الوالد يضحكُ لكلام الشيخ وينعتهُ في سرِّه بالمهُستِرْ الخَرِفْ!!

لا جدالَ في أنَّ "بوُر" لم يكن ككلّ الأطفال، بل إنَّهُ كان يتفوَّقُ على أعتى العُتاةِ في كلّ القرى المجاورة، كانَ من عاداتهِ أن يبقى ساعاتٍ واضعًا يدهُ خلفَ ظهره أمام البئرِ الواقع نهايةَ القرية، ساعاتٍ يفكّر ناظرًا إلى عمق البئر وهو شاردُ الذهن، يخالُ إلى النَّاظر إليه أنُّهُ تمثالٌ، كان يتراءى لهُ الشيخُ الأحمر مراتٍ عدَّة وفي أشكالٍ مختلفة، كانَ يقولُ له همسًا: أهلكُ قتلوا ذكرياتهم وأنا من يحفظها عن ظَهرِ قلب، لا تدع الذكريات تموتُ، إنَّها حياةٌ ثانية تنمو على مَهَلٍ.. كانَ الصوتُ يتردَّدُ ببساطةٍ وكأنّ طفلًا ما يتبوَّلُ في ساحة البيت وأبواهُ ينظرانِ إليه مغتبطَين: لقد شبّ وباتَ يشعرُ بحريَّته، لأنَهُ يفعلها أينما شاء!! ولدُنا حرٌّ يا امرأة .. ولدُنا حُرّ.. هكذا كانَ يصرخُ الأبُ مغتبطًا.

/

قتلوا الشيخَ الأحمَر!! قتلوه ولا نعرف أينَ هيَ تلكَ الذكريات التي كان يحفظها، "لقد خبَّأها في مدفنٍ قريبٍ خارجَ القرية"، لقد أبصرتهُ مرَّاتٍ عديدة وهو يدخل قنّ الدجاج الذي على مقربةٍ من المسجد"، ولكن هل من أحدٍ متيقّنٌ تمامًا أينَ خبَّأ كلّ تلك الذكريات؟

إنَّها ذكرياتنا ولم نهتمّ بها، تجاهلناها ونسيناها عن عمدٍ وها هوَ ذا يعاقِبُنا، إنَّها رحلةٌ شاقَّة وطويلة ولا أحد يعرف متى ستنتهي  إلى أن نعثر على مكان تلكَ الذكريات. هكذا كانَ الحالُ الكلاميُّ لدى أهل القريةِ المسحورةِ بذكرى الشيخ الأحمر الذي قُتِلَ بطريقةٍ مجهولة وسحريَّة...



السِّيرةُ الكاملة للشيخِ الأحمر

لم يكُن للشيخِ الأحمر أن يكونَ شيخًا، كانَ يمكنُ له أن يكونَ معلِّمًا بطريقةٍ أو بأُخرى، كانَ الشيخُ الأحمر يدوِّنُ ألغازًا غامضة لا تُفَكُّ، أسرارًا يدأبُ على خزنها أيامًا وليالٍ طويلة، هذه الأسرار هي الذكرياتُ القديمة للأجداد القدامى في قريتهِ الصغيرة، كانَ يدأبُ كحرس الخزائن في ممالك القدماء على جمعها وحمايتها من أيّ مكروهٍ، ومن ثمّ الدفاع عنها كي لا تكونَ عُرضَةً للهباء، يقولُ دائمًا بصوتٍ خفيض وهو يربت على كتف ابنتهِ المسحورة بذكريات أجداد القرية: "دفعتُ ثمنًا باهظًا لقاء احتفاظي بالذكريات العديدة لأهالي القرية المرئيين منهم واللامرئيين"، كانت الفتاة العشرينية تضحكُ بشدَّةٍ ومن ثمّ ترتخي باكيةً صارخة: "إنَّهم أغبياء يا شيخي، قتلوا كل الذكريات وسفحوها عندما وهبوكَ إيَّاها"... يبتسمُ الشيخ الأحمر بخبثٍ ومن ثمَّ مسايرًا: "لا يا ابنتي، كلامك فيه مخاتَلَةٌ عجيبة، أنا لستُ بساحرٍ، أنا موهوبٌ كأجدادكِ القدماء بجمع الذكرى كيفما كانت هيئتها وحجم رونقها أو حتى بشاعتها... استرخي يا ابنتي .. استرخي".

أزالَ الشيخُ الأحمر عناوين الذكريات المخزَّنة في القوارير واستعاضَ عنها بشرائطَ حريرٍ ملوَّنة اصطحبها معه، خلال رحلة الإيابِ من البلاد التي طردته لمغالاتهِ في استعمالِ السحر والكلامِ، ومن ثمّ غطَّى القوارير بشالِ زوجته الأولى التي احتفظَ بها منذ سنواتٍ بعيدة، "هل لشيخٍ مثلك مكانٌ آخر يأويكَ بعد هذا العمر؟"، كان يسألهُ أحدُ الرجال البسطاء. يبتسمُ الشيخ: كلّ الأماكنِ لي وملكي طالما أنَّني أمتلكُ الذكريات.. لا تخف من هذه الذكريات، يسيرُ الشيخ ببطء وهو يستحضر أرواحَ من غابوا من خلال كلامهم المخزّن في القواريرِ المرتَّبة على رفوفٍ خشبيَّةٍ صغيرة، يستحضر الشيخ أصواتَ من غابوا وهم يتحدَّثونَ له بيسرٍ وبساطة، آثارُ الحماسِ باديةٌ على وجهه الصغير الذي لا يوحي بالسحر وإنَّما بفراغٍ قاتِلْ، يتفرَّسُ الشيخُ في الجدار وكأنَّ شيئًا ما يعتورهُ، شيءٌ لا يمكن للنَّاظرِ إليه أن يتكهَّنهْ، شيءٌ ما يومِضُ كذكرى عتيقةٍ وبعيدة.



اقرأ/ي أيضًا:

أصابعي على مقبض كل باب

ما فائدة الوصول إلى نهاية؟