23-مايو-2016

سرماق أبيقلي/تركيا

على طرفٍ آخر من العالم، لِصقَ هدوء العم نبيل، أعتني بطفله الذي غرق في ذاكرتي وأغدو وحيدًا حين لا أستذكره، وعلى طرفٍ آخر من الجحيم الذي بداخلي أغدو الأوحَد في العالم، عندما أسهو عن استذكار البيت الحقير الذي آواه.

"ماذا يفعل السَّاسَة؟ إنّهم يقتلون النّاس بكلامهم القذِر"، يقول العم نبيل وهو منهمك في تغيير أرقام الستلايت، ومن ثم متابعًا: "لا أدري كيف سمحت لنفسي أن أكونَ أبًا وأنا لا أستطيع منح ضمانة الحياة لولدي اليتيم؟ كيف يمكُن لي أن أكونَ أبًا وأنا عامل بسيط أملك اليوم ثمن علبة التبغ وفي الغد لا أملك 10 ليرات أجرة السرفيس بين عملي ومنزلي؟".

حانقًا على البشريَّة يضغط على أسنانه الصفراء المنخورة، غاضبًا من السَّاسَة وظهورهم على التلفاز. "أنت مثقَّف وتدري أنّ السياسي يبيع الكلام ببخس الأثمان"، أضحكُ لمفردة "مثقّف" التي تغادرُ فاهه بطريقةٍ مسليَّة. "هل يمكنُ لأحدٍ أن ينقذنا؟، أيّة قوةٍ بإمكانها أن تمدّ يدها لتخرجنا من المستنقع النتِن هذا؟، هل تعلم أنّ الهنود كانوا يقولون قديمًا أنّ كل مفردة بلهاء تخرج من فم الإنسان تغادر ذرّات من روحه مع المفردة الخاوية؟"، مردفًا وهو يحدّق في الشاشَة :"لا تسألني كيف ذلك؟". ينهي حديثه بطقطقةٍ على خشب الطاولة: "السَّاسَة لا بدّ وأن تنتهي أرواحهم دفعةً واحدة، عليهم أن يغادروا هذا العالم".

البابُ المعدنيّ

على مقربةٍ من وجعه، أغدو بليدًا وأنا أراقب كل كلمةٍ تخرج من تلافيف سخَطهْ وليس بمقدوري فعل أي شيء ولو كان صغيرًا. العمّ نبيل ليس رجلًا من ضمن العناصر الذين رماهم الزمنُ في أماكنَ لا تشبههم وليسوا أهلاً لتلك الأماكن، إنّما هو الأنموذج الكامل لجيل الحرب الرَّاهن، الذي عايش فساد الأمس وصُدِمَ لفساد الرَّاهن: "هل من منقذ؟"، السؤال الأُعجوبة الذي لم يُعثَر له على جوابٍ بَعدُ، كان يقول: "على الرغم من صغر سنيّ، لكن قاسيت آنذاك أسىً فظيعًا، كنتُ أعمل حطّابًا في القرية بعد الحصص الدراسيّة المملَّة، أُعنَّفُ من معلم المدرسة الطينيَّة الوحيدة في القرية النائية، لأنّني قلت ذات مرَّة أنَّ المناهج خاطئة ولا بدّ أن نعرف شيئًا عن إسرائيل غير السمّ المبثوث بين طيَّات كتب التاريخ المزيّفة، أيّ جيلٍ الآن؟ أيّة ثقافةٍ تغدو معهاإنسانًا آليًّا بفكرك ومضيّك في الحياة دونما غرض أو غاية؟ فلننجوا بأنفسنا من هذه المتاهة".

غادر ولد العم نبيل بصحبة والدته سوريا بعد اندلاع الحرب أملًا في العثور على مكانٍ ملائم خارج دوّامة الحرب، لكن البحر لفظهم في الطريق إلى أوروبا الأمل! بدا وحيدًا كهلًا وهو يسرُد الحكاية بلمعةٍ في العين تكادُ تماثل سيفًا قاطعًا ومسنونًا بحدّة الأيّام وقساوتها: "كنتُ أتمنّى لو أنّ بابًا معدنيًّا هَوى على ابني وزوجتي، الحالة تلك كانت ستمنحني سكينة أن أرى جثتيّهما للمرَة الأخيرة، لكن البحر لم يهبني هذه اللحظة، أنا الذي ضيّعتُ لحظاتي بالتخطيط لمستقبلٍ مغاير لولدي الوحيد، كنتُ سأنتظرهم ريثما يرسلوا في طلبي، والحالة ليست مختلفة الآن، فلا زلت أنتظرهم ليرسلوا في إثري إلى العالم الآخر، وأنا المتيقِّن أنّه لن يختلف مطلقًا في تضاريسه وأوجاعه عن عالمنا المأفون هذا!".

الغياب

أسابيعٌ مرّت دون أن ألحَظ العمّ نبيل وهو يمشي الهوينى بخطواتٍ مثقلة بغبار التعب، ويحيّي جميع من يصادفهم في طريقه دون أن يتمعَّن في الملامح وأصولها القرويَّة مثلما كان يفعل في شبابه كما أسرّ إليّ ذات مرَّة، شهورٌ مضت دونَ أن أسمع ضحكته لمرأى السَّاسَة على شاشات التلفزة، سنواتٌ مضت!! كلّما أبصرتُ بابًا معدنيًا أصرخُ في داخلي لعلّه يسمع، كلّما أبصرتُ سياسيًّا ممشَّط الشَّعر أبصق على الشَّاشة دونما أسفٍ على حركتي تلك، كلّما قرأت عن إسرائيل في الصحف صرختُ، لكن لا رادَّ للصراخ سوى أثرُ الغياب.

اقرأ/ي أيضًا:

وحده الموت يحفظ خريطته الجديدة

الميّت وأهله