18-نوفمبر-2017

لقطة من الفيلم

في التقديم لمجموعة دروسه عبر موقع MasterClass، يبدأ مارتين سكورسيزي بوضع خط واضح فاصل بين النظر للسينما على أنها مهنة صناعة الأفلام، وبين السينما كوسيلة لسرد القصص.

ينسج سكورسيزي بذلك على منوال عظماء المخرجين، وهو أحد أبرزهم، منطلقًا من فكرة بسيطة جدًا، أن السينما التي أفنى فيها عمره ليست صناعة استهلاكية، بل هي أبسط وأعمق وأقرب من ذلك بكثير، إنها طريقة للتعبير عن الذات، عن القصة التي تحرك الإنسان وتحرقه ليُخرجها للعالم.

فيلم Pi كان وقت صناعته، ولا يزال لوحة سردية فريدة، في تعامله مع إشكال الوهم والعبقرية، وسيطرة الشغف على الإنسان المُحتجز داخل عالمه

قال سكورسيزي في حديث له عن موقع RottenTomattoes ما معناه أن "الأفلام الجيدة من المخرجين الحقيقيين، لا تصنع لِتُفكَّ شفراتها، وتُفهم مباشرة"، وهذا المغزى مهم جدًا للتعامل مع الأفلام (خصوصًا تلك الجيدة التي ينتجها مخرجون متقنون)، إنها ليست صورًا مركبة جاهزة للفهم والتحليل، بل هي أعمال فنية ناضجة يجب أن تبقى بعيدة عن منطق الاستهلاك السريع الذي ينطلق مباشرة إلى محاولة التفكيك الآني، وكشف المعاني الكامنة في كل شيء. إن الأفلام الجيدة تحمل وستحمل دائمًا شحنات معرفية وفلسفية عصية على الإدراك التام، وذلك حال الفن، فهو دائمًا وأبدًا متعالٍ، ومتجاوز للواقع.

اقرأ/ي أيضًا: 8 أسئلة تجيبك عن كل ما تحتاج معرفته عن تحفة دي سي الجديدة "Justice League"

أسوق هذا التمهيد لأحاجج مع سكورسيزي ضد المحاولات السريعة لتفكيك الأفلام وتسليعها، وأعتقد أن دارين آرنوفسكي يبقى مثالًا عبقريًا لتلك المحاججة، إذ أراه أحد أهم المخرجين الذين "يصنعون" أفلامًا لا يمكن بحالٍ وصفها بأنها عادية، نعم، يجب أن أستثني هنا فيلمه Noah، الذي بدا في عام 2014 مبتورًا من سياق جل أعماله، لكن حتى "نوح" لم يكن عاديًا، على الأقل من الناحية البصرية، لقد كان جيدًا في سرده السينماتوغرافي لقصة مستهلكة منذ الأزل.

وإذا عدنا للتسعينيات وبداية الألفية الثالثة، تحديدًا مع فيلمي آرونفسكي: Pi و Requiem for a Dream، ثم لاحقًا فيلم The Fountain عام 2006، نجد أنه كان دائمًا يبتعد عن الوسط الذي يقع بين طرفين، عن العادي، عن المستهلك والمبتذل، ويقترب كل مرة من الطرف الأقصى، مستخدمًا أدوات السينما لسرد قصص، هي الأخرى، ليست عادية، ولا يمكن فك شفراتها ببساطة من المشاهدة الأولى.

عمليًا، دخل آرنوفسكي إطار الشاشة الكبيرة مع بداية التسعينيات، بأفلام قصيرة لم تحظَ بكثير اهتمام، قبل أن يقدم في عام 1998 أول أفلامِه التي ستجعل منه آرنوفسكي كما نعرفه اليوم، فيلم Pi الذي كان حينها، ولا يزال لوحة سردية فريدة، في تعامله مع إشكال الوهم والعبقرية، وسيطرة الشغف على الإنسان المُحتجز داخل عالمه، داخل ذاته، داخل عقله، كسر آرنوفسكي كثيرًا من الأنساق السينمائية بفيلمه ذلك الذي جاء من خارج المُتوقع كمقدمة لما سنراه لاحقًا من مخرجٍ لم يكن آنذاك بربعِ شهرته اليوم ولو أنه ظهر حينها بكامل إبداعه.

أعاد آرنوفسكي تجربته المثالية عام 2000، بفيلمه الأهم، ربما، "مرثيةُ حلم" Requiem for a Dream الذي غاص به في جانبٍ آخر من ذات العقل وما يتحكم بها من خارج الجسد، وكيف تتشابك العلاقاتُ الإنسانية في تعقيد وتكرار مذهلين لا تفككهُما إلا صدماتِ الواقع المُتسلط وما يجترحه الإنسان على نفسه من خياراتٍ تشبع في رغبته في الحياة حينًا، وتقوده للموت أحيانًا كثيرة.

اقرأ/ي أيضًا: هيدي لامار.. وثائقي جديد عن الممثلة الفاتنة والمخترعة العبقرية

ثم بعد عقد من ذلك نجد محطة ثالثة مهمة لآرنوفسكي: فيلم Black Swan الذي أعاد فيه اختراع الألم، وأظهر ناتالي بورتمان في أحد أقسى وأجمل وأكمل أدوارها، وبعث تشايكوفسكي من مرقده ليشهد بلاغة الصورة عندما يمتزج فيها الرقص بالسينما وتُحكى بها قصة البجعتين في قالب بصري وموسيقي فريد، يحاكي السرد الأصلي لأيام البجعة السوداء في حنين دائم للكمال، للموتِ الذي يبدو سمة متكررة في أفلام آرنوفسكي، إذ الموت (في النهاية) هو مبلغ تمام الحياة.

سبعة أعوام بعد سقوط "نينا" الكاملة من مسرح تشايكوفسكي، عاد آرنوفسكي لقدم لنا عالمًا آخر، هو حرفيًا العالم كله، بتاريخهِ مختصرًا في ساعتين، محتجزًا في بيتٍ هو الأرض الأم، متنقلًا بين فصول القصة الإنسانية من بدء الخلق إلى ما بعد نهايته، معيدًا صياغة التفاصيل برمزية الفعل السينمائي القادر على اختزال آلاف السنين والمعاني في لقطة سُفلية واحدة، ولا يقتصر آرنوفسكي في فيلم Mother!

أعاد آرنوفسكي تجربته المثالية عام 2000، بفيلمه الأهم، ربما، "مرثيةُ حلم" Requiem for a Dream الذي غاص به في جانبٍ آخر من ذات العقل وما يتحكم بها من خارج الجسد

على سرد الأحداث وتشفير معانيها فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى خلط الحقيقتين التاريخية والدينية بالحقيقة السينمائية، أي أنه يمزج عمدًا بين ما هو نص وما هو رمز، بين ما هو خط وما هو صورة، رافعًا السيميولوجيا إلى أعلى سقوفها، من أول النشوء البشري وتطور الثقافة وارتقاء المعرفة إلى أيام الاحتباس الحراري وغلبة الإنسان على أمهِ الأرض وقهره لها، حيثُ لا يتمثل الدين كجزء من التاريخ فحسب، بل كمؤثر في الواقع ومحددٍ لمآلاتِ المتوقع من الأحداث: كل ذلك وأكثر قدمه آرنوفسكي مستخدمًا ثلاث زوايا فقط، في 120 دقيقة بأداء مذهل لخافيير بارديم وجينفير لورانس، مثبتًا أن الأفلام العظيمة ليست -فحسب- تلك التي تنقسم بينها الأراء بحدية مطلقة، بل هي، قبل ذلك وبعده، تلك الأعمال الفنية التي يستحيل فك معانيها ببساطة المعاينة وسرعة الاستهلاك.

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم "Mother".. هل هو حقًا عن نظرة أرنوفسكي للطبيعة والأديان؟

دنزل واشنطن: "لا أعتقد أن هناك أي نظام"