01-أغسطس-2023
كانون دويل عصبة ذوي الشعر الأحمر هشام فهمي

آرثر كونان دويل طبيب وروائي اسكتلندي اشتُهر برواياته عن المحقق شرلوك هولمز، التي تعد من أشهر ما كُتب في أدب الجريمة.


ذهبتُ في أحد أيَّام الخريف الماضي لزيارة صديقي المستر شرلوك هولمز، لأجده مستغرقًا في حوارٍ مع كهلٍ شديد البدانة، له وجهٌ مُتورِّد وشعر أحمر ناري. اعتذرتُ لتطفُّلي، وأوشكتُ على الانسحاب، لكن هولمز جذبَني فجأةً إلى داخل الغُرفة وأغلقَ الباب ورائي قائلًا بمودَّة: لم تكن لتختار وقتًا أنسب للزِّيارة يا عزيزي واطسن.

- خشيتُ أنك مشغول.

- أنا كذلك فعلًا، مشغولٌ لأقصى درجة.

- يُمكنني انتظارك في الغُرفة المجاورة إذًا.

قال هولمز: لا داعي لذلك.

ثم خاطبَ الرَّجل الآخَر قائلًا: هذا السيِّد يا مستر ويلسن كان شريكي ومساعدي في عددٍ كبير من أنجح قضاياي، ولا شكَّ لديَّ في أنه سيكون ذا فائدةٍ قُصوى في قضيَّتك أيضًا.

نهضَ البدين جزئيًّا وحيَّاني بهزَّةٍ من رأسه، وقد لاحَت نظرةٌ متسائلة سريعة في عينيْه الصَّغيرتين المحاطتيْن بالانتفاخات، فيما قال هولمز وهو يُعاوِد الجلوس في مقعده ذي المسنديْن ويُلمِّس أنامله كعادته وهو مستغرقٌ في التفكير: جرِّب الأريكة. أعرفُ يا عزيزي واطسن أنك تُشارِكني حُبِّي كلَّ ما هو غريبٌ وخارجٌ عن أعراف الحياة اليوميَّة ورتابتها، وقد أظهرتَ شغفك هذا من خلال الحماسة التي دفعَتك إلى تسجيل عددٍ كبير من مغامراتي الصَّغيرة –ولا تُؤاخِذني على قولي هذا- وتزويقها نوعًا ما.

علَّقتُ: لقد وجدتُ في نفسي اهتمامًا كبيرًا بقضاياك.

- لعلَّك تَذكُر الملاحظة التي ألقيتها في ذلك اليوم، قبل تولِّينا القضيَّة شديدة البساطة التي جاءَتنا بها المِس ماري سذرلاند، عن وجوب بحثنا في الواقع نفسه عن الحقائق الغريبة والتَّراكيب غير المعتادة، فالواقع أجرأ بكثيرٍ من أيِّ خيال.

- وهو الافتراض الذي سمحتُ لنفسي بالتَّشكيك فيه.

- صحيحٌ يا دكتور، وإن تحتَّم أن تقتنع برأيي في النِّهاية، وإلَّا لظللتُ أكدِّس عليك الحقائق واحدةً تلو أخرى إلى أن ينهار منطقك تحت وطئتها وتعترف بأني على حق. حسن، لقد تفضَّل المستر جابز ويلسن بزيارتي هذا الصَّباح ليقصَّ عليَّ قصَّةً تُبشِّر بأن تكون من أعجب ما سمعتُ في حياتي على الإطلاق. سمعتَني أقولُ من قبل إنَّ أغرب الأشياء وأكثرها تفرُّدًا يرتبط بصُغرى الجرائم لا كُبراها، وأحيانًا يَحدُث هذا عندما يُوجَد مجالٌ للشَّكِّ في وقوع جريمةٍ أصلًا. على حدِّ ما سمعتُ، من المستحيل أن أحدِّد هل للقضيَّة الحاليَّة علاقة بجريمةٍ فعليَّة أم لا، لكن المؤكَّد أنَّ مسار الأحداث من أغرب ما سمعتُ بالفعل.

ثم توجَّه هولمز بكلامه إلى الرجل الآخَر: أرجو منك يا مستر ويلسن أن تتفضَّل بسرد حكايتك من جديد، ولا أطلبُ منك هذا لمجرَّد أنَّ الدكتور واطسن لم يسمعها من بدايتها فحسب، بل أيضًا لأن طبيعة القصَّة الخاصَّة تُشوِّقني إلى سماع جميع التَّفاصيل الممكنة من فمك. من باب القاعدة، عندما أسمعُ ما يدلُّ على المسار الذي ستتَّخذه الأحداث، أتمكَّنُ عندئذٍ من إرشاد نفسي على ضوء آلافٍ من القضايا المشابهة الأخرى التي تَخطُر بذاكرتي، وفي الوقت الرَّاهن أجدُ نفسي مجبرًا على الاعتراف بأن الحقائق التي سردتها عليَّ فريدةٌ من نوعها حقًّا في رأيي.

نفخَ العميل البدين صدره بأسلوبٍ يوحي بشيءٍ من الكبرياء، وأخرجَ جريدةً متَّسخةً مجعَّدة الصَّفحات من جيب سُترته الدَّاخلي، وإذ نظرَ إلى عمود الإعلانات مشرئبًّا بعُنقه وفاردًا الجريدة على رُكبته، رمقتُه بإمعانٍ وحاولتُ -كما يفعل رفيقي- قراءة الأمارات التي قد تحملها ثيابه أو مظهره.

على أني لم أتوصَّل إلى كثيرٍ من تفحُّصي له، فقد حملَ ضيفنا هذا كلَّ العلامات الدَّالَّة على أنه تاجرٌ إنجليزيٌّ تقليديٌّ جدًّا، من البدانة إلى سمت التعالي إلى البُطء. ارتدى الرَّجل بنطالًا رماديًّا فضفاضًا مربَّع النُّقوش، وسُترةً سوداء فتحَ أزرارها الأماميَّة، تصل إلى الرُّكبة ولا تبدو آيةً في النَّظافة، وصُدرةً ذات لونٍ أسمر فاتح مزوَّدةً بسلسلةٍ ثقيلة من النُّحاس الأصفر من طراز آلبرت، تتدلَّى منها قطعة معدنٍ مربَّعة مثقوبة مثل الحلية، فيما تستقرُّ قُبَّعة مهترئة مع معطفٍ بنِّي باهت بياقةٍ أرجوانيَّة مجعَّدة على المقعد المجاور. مهما دقَّقتُ النَّظر إليه لم أرَ في الرَّجل شيئًا مميَّزًا باستثناء شعره الأحمر النَّاري وتعبير الكدر والاستياء على مُحيَّاه.

رصدَت نظرة شرلوك هولمز الثَّاقبة ما شغلتُ به نفسي، فهزَّ رأسه مبتسمًا إذ لاحظَ نظراتي المتسائلة، وقال: بعيدًا عن الحقائق الواضحة التي تشي بأنه مارَس عملًا يدويًّا في فترةٍ ما، وأنه يتعاطى النَّشوق، وأنه ماسوني حُر، وأنه زارَ الصين، وأنه مارسَ قدرًا كبيرًا من الكتابة في الآونة الأخيرة، لا أستطيعُ استنتاج شيءٍ آخَر.

هبَّ المستر جابز ويلسن من مقعده جزئيًّا وسبَّابته لا تزال على الجريدة، وحملقَ إلى رفيقي سائلًا بدهشة: كيف عرفت كلَّ هذا بحقِّ السماء يا مستر هولمز؟ كيف عرفت أني مارستُ عملًا يدويًّا على سبيل المثال؟ هذا صحيحٌ تمامًا، لأني بدأتُ أعملُ نجَّار سُفن.

- من يديْك يا سيِّدي العزيز، فيُمناك أكبر من يُسراك بقدرٍ لا بأس به، لأنك عملت بها فنمَت عضلاتها أكثر.

- وماذا عن النَّشوق؟ وأني ماسونيٌّ حُر؟

- لن أهين ذكاءك بإخبارك كيف استنتجتُ هذا، بخاصَّةٍ أنك -مخالفةً لقواعد جماعتك الصَّارمة- تضع دبُّوس صدرٍ بشكل قوسٍ وبوصلة.

- أوه، طبعًا، نسيتُ هذا. ولكن ماذا عن الكتابة؟

- خمس بوصاتٍ فقط من كُمِّك الأيمن تلمع، والأيسر ذو الرُّقعة الملساء بالقُرب من المرفق حيث تريحه على المكتب. لا تفسير آخَر.

- حسن، والصين؟

- وشم السَّمكة الذي يعلو معصمك الأيمن مباشرةً لا يدقُّ إلَّا في الصين. لقد أجريتُ دراسةً صغيرةً عن الوشوم، بل وأسهمتُ في ما كُتِبَ عنها كذلك، وحيلة طلاء حراشف السَّمكة بهذه الدَّرجة الورديَّة الرَّقيقة يمتاز بها الصينيُّون وحدهم، علاوةً على أني أرى عُملةً صينيَّةً تتدلَّى من سلسلة ساعتك، وهو ما يجعل المسألة أبسط.

أطلقَ المستر جابز ويلسن ضحكةً قويَّةً، وقال: حسبتُ في البداية أنك تُمارِس حيلةً ما، لكني أرى الآن أنَّ لا حيل في الأمر على الإطلاق.

قال هولمز: بدأتُ أظنُّ أني أخطئ حين أشرحُ يا واطسن، فكما تعلم، كلُّ ما هو مجهول يبدو عظيمًا (قال هولمز العبارة الأخيرة باللاتينيَّة)، وستتلف سُمعتي إذا استمررتُ على صراحتي هذه.

ثم خاطبَ عميلنا قائلًا: ألا تستطيع العثور على الإعلان يا مستر ويلسن؟

أجابَ الرَّجل غارزًا إصبعه الحمراء الثَّخينة في منتصف عمود الجريدة: وجدته. ها هو ذا، المكان الذي بدأ منه كلُّ شيء. اقرأه بنفسك يا سيِّدي.

تناولتُ منه الجريدة وقرأتُ الإعلان الذي يقول:

«إلى عُصبة ذوي الشَّعر الأحمر: فيما يتعلَّق بتركة الرَّاحل إزيكيا هوپكنز من لبانون، پنسلڤانيا، الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، لدينا الآن وظيفةٌ شاغرة أخرى تُخوِّل لعُضو العُصبة أن يتلقَّى راتبًا يَبلُغ أربعة جنيهاتٍ ذهبيَّة أسبوعيًّا لقاء أداء خدماتٍ محدودة للغاية. كلُّ رجلٍ أحمر الشَّعر سليم الجسد والعقل فوق سنِّ الحادية والعشرين مؤهَّلٌ لشغل هذه الوظيفة. يُمكنكم التَّقدُّم بأنفُسكم يوم الاثنين في السَّاعة الحادية عشرة إلى دنكن روس في مكتب العُصبة الكائن في 7 پوپز كورت، فليت ستريت».

صحتُ بعد أن قرأتُ الإعلان الغريب مرَّتيْن كاملتيْن: ما الذي يعنيه هذا؟!

قهقهَ هولمز وهو يتلوَّى في مقعده كعادته حين يَشعُر بالاستمتاع، وقال: غريبٌ بعض الشَّيء، أليس كذلك؟ والآن يا مستر ويلسن، أريدك أن تبدأ من البداية وتقصَّ علينا كلَّ شيءٍ عن نفسك وأسرتك وتأثير هذا الإعلان على حظِّك. دكتور، أريدك أن تلحظ الجريدة وتاريخها أوَّلًا.

- إنه عدد «مورننج كرونكل» الصَّادر في 27 أبريل 1890، منذ شهريْن فقط.

- عظيم. تفضَّل يا مستر ويلسن.

قال جابز ويلسن مجفِّفًا العرق عن جبهته: كما أخبرتك يا مستر شرلوك هولمز، لديَّ محل رهوناتٍ صغير في كوبرج سكوير بالقُرب من مركز لندن المالي. ليست بالتِّجارة الرَّائجة، وفي السَّنوات الأخيرة لم تدرَّ عليَّ إلَّا كفاف العيش لا أكثر. عملَ معي مساعدان فيما سبقَ، لكن لديَّ واحدًا فقط الآن، والسَّبب الوحيد الذي جعلني أعطيه الوظيفة هو استعداده للعمل بنصف أجرٍ ليتعلَّم أصول المهنة.

سأله هولمز: وما اسم هذا الشَّاب اللَّطيف؟

- اسمه ڤينسنت سپولدنج، وليس شابًّا جدًّا كذلك، ولكن من الصَّعب تخمين سنِّه. لم أكن لأرغب في مساعدٍ أذكى يا مستر هولمز، وأعرفُ جيِّدًا أنه يستطيع أن يُحسِّن أداءه ويجني ضعف الأجر الذي أدفعه له، لكنه راضٍ رغم كلِّ شيء، فلِمَ أضع أفكارًا كتلك في رأسه؟

- لِمَ بالفعل؟ يبدو أنَّ حظًّا سعيدًا جدًّا حالفَك عندما وجدت موظَّفًا مستعدًّا للعمل بأقل من الأجر الكامل المتعارَف عليه في السُّوق. أظنُّ أنَّ مساعدك هذا شخصٌ استثنائي، تمامًا كهذا الإعلان.

قال المستر ويلسن: إنَّ له عيوبه أيضًا. لم أرَ قطُّ أحدًا مولعًا بالتَّصوير الفوتوجرافي مثله، يلتقط الصُّور طول الوقت بكاميرته، في حين أنه يَجدُر به أن يُطوِّر عقله، ثم يختفي في القبو كأرنبٍ في جُحره ليُحمِّض صُوره. هذا هو عيبه الأكبر، لكنه موظَّف جيِّد عمومًا، وليست فيه ذرَّة رذيلة.

- وما زال يعمل لديك على ما أظنُّ؟

- نعم يا سيِّدي، هو وفتاة في الرَّابعة عشرة تطهو وجباتٍ بسيطةً وتُحافِظ على نظافة المكان. لا يُوجَد إلَّا ثلاثتنا في المنزل، فأنا أرمل ولم أكوِّن عائلةً قَطُّ. يحيا ثلاثتنا حياةً هادئةً تمامًا يا سيِّدي. لدينا بيت يُؤوينا، ونُسدِّد ديوننا لا أكثر. أوَّل ما غيَّر مجرى هذه الحياة هو هذا الإعلان، عندما جاءَ سپولدنج إلى المكتب في مثل هذا اليوم منذ ثمانية أسابيع حاملًا الجريدة في يده، وقال: ليت الله خلقَني بشعرٍ أحمر يا مستر ويلسن.

سألته: لماذا؟

فأجابَ: لدى عُصبة ذوي الشَّعر الأحمر وظيفةٌ شاغرة، وظيفةٌ تعني ثروةً صغيرةً لأيِّ رجلٍ يشغلها. لديهم الآن وظائف أكثر من الموظَّفين، والأوصياء حائرون فيما ينبغي فعله بالنقود. لو تغيَّر لون شعري فحسب لصارَ لديَّ موقع صغير لطيف أشغله.

سألته مندهشًا عن عُصبة ذوي الشَّعر الأحمر تلك، فكما ترى يا مستر هولمز، أنا رجلٌ يُفضِّل البقاء في المنزل على الخروج، وعملي يأتيني بدلًا من أن أضطرَّ إلى الذَّهاب إليه بنفسي، وهكذا تمرُّ أسابيع كاملة دون أن أخطو خارج عتبة المنزل، فلا أعرفُ كثيرًا عمَّا يجري بالخارج، وهو ما يجعلني أسعدُ لتلقِّي شيءٍ من الأخبار بين حينٍ وآخَر.

سألَني سپولدنج بعينيْن متَّسعتيْن: ألم تسمع عن عُصبة ذوي الشَّعر الأحمر من قبل حقًّا؟

- نهائيًّا.

- عجبًا! فأنت نفسك مرشَّحٌ لشغل واحدةٍ من وظائفهم الشَّاغرة.

سألته: وكم يدفعون؟

- نحو مئتَي جنيه سنويًّا، لكن العمل خفيفٌ ولا يتعارَض كثيرًا مع المشاغل الأخرى.

لك أن تتخيَّل أني سمعته بآذانٍ صاغية، فمنذ بضع سنواتٍ لا تمضي أمور العمل على ما يُرام، والحصول على مئتَي جنيه إضافية سيُشكِّل تحسُّنًا كبيرًا في الأوضاع.

قلتُ: كلِّمني عنهم.

قال وهو يُريني الإعلان: يُمكنك أن ترى بنفسك أنَّ العُصبة لديها مكان شاغر، وهذا هو العنوان الذي تستطيع الذَّهاب إليه لمعرفة التفاصيل. على حدِّ علمي، أنشأ العُصبة مليونير أمريكي غريب الأطوار اسمه إزيكيا هوپكنز. كان هو نفسه ذا شعرٍ أحمر، وحملَ كثيرًا من التَّعاطُف نحو كلِّ رجلٍ أحمر الشَّعر، فاكتُشفَ بعد وفاته أنه تركَ ثروته الضَّخمة في أيدي مجموعةٍ من الأوصياء، مع تعليماتٍ باستغلالها في تزويد الرِّجال ذوي الشَّعر الأحمر بوظائفٍ هيِّنة. حسبما سمعتُ، يدفعون أجورًا ممتازةً لقاء قليلٍ جدًّا من العمل.

قلتُ: ولكن لا بُدَّ أنَّ ملايين من ذوي الشَّعر الأحمر سيتقدَّمون لشغل الوظيفة.

ردَّ: لن يكون العدد كبيرًا كما تحسب، فالوظيفة تقتصر على سُكَّان لندن فقط، وعلى البالغين. لقد بدأ هذا الأمريكي من لندن في شبابه، وأرادَ أن يردَّ الجميل لمدينته القديمة. سمعتُ أيضًا أنَّ لا فائدة من التَّقدُّم للوظيفة لو أنَّ شعرك أحمر فاتح أو داكن أو أيُّ شيءٍ آخَر غير الشَّعر الأحمر النَّاري اللَّامع. يُمكنك أن تذهب يا مستر ويلسن إذا أردت التَّقدُّم لهذه الوظيفة، ولكن قد لا يستحقُّ الأمر عناء تغيير عاداتك الثَّابتة من أجل بضع مئاتٍ إضافيَّة من الجنيهات.

حسن، صحيحٌ تمامًا أيُّها السيِّدان، وكما تريان بنفسيْكما، أنَّ لون شعري أحمر لامع غني، فخطرَ لي أنه إذا احتوى الأمر على منافسةٍ ففُرصتي تُعادِل فُرصة أيِّ رجلٍ التقيته في حياتي كلِّها، وقد بدا لي أن ڤينسنت سپولدنج يعرف معلوماتٍ كثيرةً، ففكَّرتُ أنه قد يفيدني، وعليه أمرته بأن يُسدِل ستائر المحل ويأتي معي. كان راغبًا بشدَّةٍ في أخذ عُطلة، فأغلقنا المحل وعمدنا إلى العنوان المذكور في الإعلان.

 آملُ ألَّا أرى مشهدًا كالذي رأيته يومها ثانيةً أبدًا يا مستر هولمز. من الشَّمال والجنوب والشَّرق والغرب جاءَ إلى المدينة كلُّ رجلٍ لديه ولو درجة خفيفة من الأحمر في شعره استجابةً للإعلان، واكتظَّ فليت ستريت عن آخِره بذوي الشَّعر الأحمر، وبدا پوپز كورت كعربة فاكهة لا يبيع صاحبها إلَّا البرتقال. لم أتصوَّر أنَّ في البلاد كلَّ هذا العدد من أصحاب الشَّعر الأحمر ليجمعهم إعلانٌ واحد في هذا المكان. انتشرَت درجات الأحمر في كلِّ مكان، من القشِّي إلى اللَّيموني إلى البرتقالي إلى القرميدي ولون كلاب السِّتَر الأيرلنديَّة ولون الكبد والطَّمي، ولكن كما قال سپولدنج، لم يحمل كثيرون شعرًا أحمر ناريًّا حقيقيًّا فوق رؤوسهم. أوشكتُ على الاستسلام لليأس حين رأيتُ العدد المتقدِّم لشغل الوظيفة، لكن سپولدنج رفضَ تمامًا أن نعود أدراجنا. لا أدري كيف فعلها، لكنه أخذَ يدفع ويسحب ويتملَّص إلى أن مرَّ بي وسط الحشد الكبير إلى درجات السَّلالم التي تقود إلى المكتب. رأيتُ صفَّيْن من الرِّجال، أحدهما للصَّاعدين أملًا في الظَّفر بالوظيفة، والآخَر للنَّازلين المرفوضين، لكننا شققنا طريقنا بينهم قدر المستطاع، وسرعان ما وجدنا نفسيْنا داخل المكتب.

علَّق هولمز عندما توقَّف عميله عن السَّرد ليُنعِش ذاكرته بحفنةٍ ضخمة من النَّشوق: تجربتك مسلِّية لأقصى حد. تفضَّل باستكمال روايتك المثيرة.

وعادَ الرَّجل يروي: لم يحوِ المكتب أثاثًا إلَّا مقعديْن خشبيَّيْن وطاولةً من خشب الصَّنوبر، جلسَ وراءها رجلٌ قصير القامة ذو شعرٍ أشد حُمرة من شعري. قال الرَّجل بضع كلماتٍ لكلِّ مرشَّحٍ يَدخُل، لكنه وجدَ دائمًا عيبًا يحرمه التَّأهُّل للوظيفة، وبدا لي أنَّ الحصول عليها ليس بالمسألة السَّهلة رغم كلِّ شيء. على أنَّ الرَّجل الصَّغير، حين جاءَ دورنا ودخلنا، بدا أنه يفضِّلني على أيٍّ من الآخَرين، وأغلقَ الباب بعد دخولنا ليتكلَّم معنا على انفراد.

قال مساعدي: هذا هو المستر جابز ويلسن، وهو راغبٌ في شغل الوظيفة الشَّاغرة لدى العُصبة.

أجابَ الرَّجل الآخَر: وهو مناسبٌ لها إلى حدٍّ يثير الإعجاب. إنه يملك جميع المتطلَّبات، ولا أذكرُ متى رأيت شيئًا بهذا الجمال من قبل.

ثم تراجعَ خُطوةً ومالَ برأسه إلى الجانب وأخذَ يُحدِّق إلى شعري حتى شعرتُ بالحرج، قبل أن يندفع إلى الأمام ويعتصر رأسي مهنِّئًا إياي بحرارةٍ على نجاحي، ويقول: من الظُّلم أن نتردَّد في قبولك، وأنا واثقٌ بأنك ستَعذُرني إذ أتَّخذُ إجراءً وقائيًّا واضحًا كهذا.

قالها وقبضَ على شعري بكلتا يديْه وراحَ يجذبه إلى أن صرختُ من الألم، فقال مطلقًا سراحي: في عينيْك دموع، وهو ما يعني أن كلَّ شيءٍ كما ينبغي أن يكون. علينا أن نتوخَّى الحذر، فقد خُدعنا مرَّتيْن ممَّن يضعون شعرًا مستعارًا ومرَّةً من رجلٍ صبغَ شعره. يُمكنني أن أقصَّ عليك قصصًا عن الشَّمع الدُّهني من شأنها أن تُثير غثيانك.

ثم اتَّجه إلى النَّافذة وهتفَ بأعلى صوته أنَّ الوظيفة شُغلَت، ومن الشَّارع بالأسفل ارتفعَت صيحة خيبة أمل، وتفرَّق المحتشدون في كلِّ اتِّجاه، حتى لم يَعُد أحدٌ ذو شعرٍ أحمرَ باستثنائي والمدير.

قال قصير القامة: اسمي المستر دنكن روس، وأنا نفسي واحدٌ من المنتفعين برأس المال الذي تركه راعينا النَّبيل. أأنت متزوِّج يا مستر ويلسن؟ ألديك عائلة؟

أجبتُ بالنَّفي، فانقلبَت سحنته في الحال، وقال بعبوس: يا للخسارة! هذه مسألةٌ مهمَّة للغاية في الحقيقة، ويُؤسِفني أن أسمعك تقول هذا. إنَّ رأس المال مخصَّص بالطَّبع لتكاثُر وانتشار ذوي الشَّعر الأحمر بالإضافة إلى الحفاظ عليهم، ومن المؤسف لأقصى حدٍّ أنك أعزب.

اكفهرَّ وجهي عندما سمعته يقول هذا يا مستر هولمز، فقد بدا لي أنَّ الوظيفة لن تكون من نصيبي في النِّهاية، لكن الرَّجل قال بعد أن استغرقَ في التَّفكير بضع دقائق إنه لا بأس بأني أعزب، وأردفَ: في حالةٍ أخرى لرفضناك رفضًا قاطعًا، لكن حريٌّ بنا أن نتعامل بمرونةٍ مع رجلٍ يملك شعرًا كشعرك. متى يُمكنك مباشرة مهام عملك الجديد؟

قلتُ: الأمر مُربك إلى حدٍّ ما، لأن لديَّ تجارتي بالفعل.

اندفعَ سپولدنج قائلًا: لا عليك يا مستر ويلسن. سأقدرُ على تولِّي العمل في غيابك.

سألتُ: ما ساعات العمل؟

أجابَ روس: من العاشرة إلى الثَّانية نهارًا.

تعرف يا مستر هولمز أنَّ أعمال الرُّهونات غالبًا ما تُجرى في المساء، خصوصًا مساء يومَي الخميس والجمعة اللذين يسبقان يوم دفع الأجور، ولهذا ناسبَني تمامًا أن أجني مزيدًا من المال بالنَّهار، علاوةً على أني وثقتُ بأن مساعدي رجلٌ صالح، وبأنه سيتولَّى جميع شؤون العمل.

هكذا قلتُ: لا بأس بهذا على الإطلاق. وماذا عن الأجر؟

- أربعة جنيهات ذهبيَّة في الأسبوع.

- والعمل؟

- محدودٌ للغاية.

- وما الذي تعتبره محدودًا للغاية؟

- يجب أن تبقى في المكتب، أو المبنى على الأقل، طوال الوقت. إذا غادرت فإنك تتنازل عن وظيفتك نهائيًّا. الوصيَّة واضحةٌ تمامًا في هذه النُّقطة، وستُعَدُّ مغادرتك المكتب خلال ساعات العمل مخالفةً للشُّروط.

قلتُ: إنها أربع ساعاتٍ في اليوم لا أكثر، ولن أفكِّر في المغادرة.

قال المستر دنكن روس: لن ينجح أيُّ عُذر؛ لا المرض أو العمل أو أيُّ شيءٍ آخَر. عليك أن تبقى وإلَّا خسرت الوظيفة.

- وما العمل الذي سأمارسه؟

- ستنسخ الموسوعة البريطانيَّة. ها هو ذا المجلَّد الأول. عليك إحضار الحبر والأقلام والورق النشَّاف بنفسك، لكننا سنزوِّدك بهذه المنضدة والمقعد. أأنت جاهزٌ للمجيء غدًا؟

أجبتُ: بالتَّأكيد.

- إلى اللِّقاء إذًا يا مستر جابز ويلسن، ودعني أهنِّئك مرَّةً أخرى على الموقع المهم الذي نلته.

واصطحبَني إلى خارج الغُرفة، وعدتُ إلى المنزل مع مساعدي وأنا لا أدري ماذا أقولُ أو أفعلُ، شاعرًا بسعادةٍ بالغة لحظِّي الحسن.

ظللتُ أفكِّرُ في الأمر طول النَّهار، وبحلول المساء انخفضَت روحي المعنويَّة من جديد، فقد أقنعتُ نفسي بأن المسألة كلَّها مجرَّد حيلةٍ أو خدعة حتمًا، ولو أني عجزتُ عن التَّوصُّل إلى الغرض منها. استعصى على التَّصديق أن يَترُك أحدهم وصيَّةً كهذه، أو أن يدفعوا لي مبلغًا كهذا مقابل عملٍ بسيط كنسخ الموسوعة البريطانيَّة. بذلَ ڤينسنت سپولدنج كلَّ ما بوسعه للتَّرفيه عني، لكني بحلول موعد النوم أقنعتُ نفسي بنسيان الموضوع كلِّه. على أنني قرَّرتُ في الصَّباح أن أجرِّب بنفسي على كلِّ حال، فابتعتُ زجاجةً من الحبر ببنس، ثم اتَّجهتُ إلى پوپز كورت حاملًا معي ريشةً للكتابة وسبعة فروخ من ورق الفلوسكاپ.

لدهشتي وسعادتي بدا كلُّ شيءٍ سليمًا تمامًا. جُهِّزَت لي المنضدة، ووجدتُ المستر دنكن روس هناك ليرى أني بدأتُ العمل. جعلَني أبدأ بحرف A ثم تركَني، لكنه مرَّ عليَّ بين حينٍ وآخَر ليتأكَّد أنَّ كلَّ شيءٍ بخيرٍ معي، وفي السَّاعة الثَّانية ودَّعني وهنَّأني على القدر الذي نسخته من الموسوعة، وأوصدَ باب المكتب ورائي.

استمرَّت الأمور على هذه الوتيرة يومًا بعد يومٍ يا مستر هولمز، وفي يوم السبت جاءَ المدير ليُعطيني أربعة جنيهاتٍ ذهبيَّةً مقابل العمل الذي أدَّيته هذا الأسبوع، وهو ما تكرَّر في الأسبوع التَّالي والأسبوع الذي تلاه. حضرتُ كلَّ صباحٍ في العاشرة، وفي الثَّانية بعد الظُّهر غادرتُ. تدريجيًّا بدأ المستر دنكن روس يأتي ليراني مرَّةً واحدة في الصَّباح، وبعد مرور بعض الوقت لم يَعُد يأتي إطلاقًا. بالطَّبع لم أجرؤ على مغادرة الغرفة ولو لحظةً لأني لم أدرِ متى قد يأتي، والوظيفة ممتازة بحقٍّ وناسبَتني جدًّا، فلم أرغب في المخاطرة بفقدها.

مرَّت ثمانية أسابيع على هذه الحال، نسختُ في أثنائها معلوماتٍ كثيرةً جدًّا عن الأشياء التي تبدأ بحرف A، وأملتُ أن أجتهد لأصل إلى حرف B قبل مرور وقتٍ طويل. كلَّفني العمل بعض المال لشراء أوراق الفلوسكاپ، وأوشكتُ أن أملأ رفًّا كاملًا بما نسخته. ثم انتهى الأمر كلُّه فجأةً.

سألَ هولمز: انتهى؟

- نعم يا سيِّدي، وهذا الصَّباح بالتَّحديد. ذهبتُ إلى عملي في العاشرة كالمعتاد، لكني وجدتُ الباب مغلقًا وموصدًا، ويعلوه مربَّع صغير من الورق المقوَّى مثبَّت في منتصف اللَّوح بمسمارٍ صغير. ها هو ذا، ويُمكنك أن تقرأه بنفسك.

ورفعَ ويلسن قطعةً من الورق الأبيض المقوَّى بحجم ورقة البنكنوت تقريبًا كُتِبَ عليها:

عُصبة ذوي الشَّعر الأحمر

حُلَّت

9 أكتوبر 1890

أمعنَ شرلوك هولمز وأمعنتُ النظر إلى هذه الرِّسالة المقتضبة والوجه الحزين ورائها، إلى أن تغلَّب الجانب الهزليُّ من المسألة كلِّها على كلِّ جانبٍ آخَر، وانفجرَ كلانا في ضحكٍ صاخب.

زعقَ عميلنا وقد احمرَّ وجهه بأكمله حتى جذور شعره النَّاري: لا أرى داعيًا إلى الضَّحك. لو أنَّ كلَّ ما بوسعك هو السُّخرية مني، فيُمكنني الذَّهاب إلى مكانٍ آخَر.

صاحَ هولمز وهو يُعيده إلى المقعد الذي نهضَ منه جزئيًّا: لا، لا. لا يُمكنني حقًّا أن أفوِّت قضيَّتك هذه لأيِّ سبب. إنها غير تقليديَّة على الإطلاق وعلى نحوٍ منعش حقًّا، لكن اعذُرني حين أقولُ إنَّ فيها شيئًا طريفًا نوعًا. أخبِرني، ما الخطوات التي اتَّخذتها لمَّا وجدت الرِّسالة على الباب؟

- كنتُ مذهولًا يا سيِّدي، ولم أعرف ما العمل، ثم بدأتُ أدورُ على المكاتب المحيطة بمكتب العُصبة، لكن أحدًا لم يعرف أيَّ شيءٍ عنها، وأخيرًا ذهبتُ إلى صاحب العقار الذي يعمل محاسبًا ويُقيم في الطَّابق الأرضي، وسألته أن يُخبِرني لو أنه يعلم بما حدثَ لعُصبة ذوي الشَّعر الأحمر، فقال إنه يجهل كلَّ شيءٍ عن كيانٍ بهذا الاسم، ثم سألته عن المستر دنكن روس، فردَّ بأن الاسم جديدٌ عليه تمامًا.

قلتُ: إنه السيِّد الذي يعمل في الطَّابق الرَّابع.

- تقصد الرجل ذا الشَّعر الأحمر؟

- نعم.

- آه، اسمه وليَم موريس. إنه محامٍ استخدمَ غرفتي مكانًا مؤقَّتًا إلى أن يجهز مقرُّه الجديد. لقد رحلَ أمس.

- وأين يُمكنني العثور عليه؟

- في مكتبه الجديد، فقد أخبرَني بالعنوان. نعم، 17 كينج إدوارد ستريت، قُرب كنيسة سانت پول.

هكذا اتَّجهتُ إلى هذا العنوان يا مستر هولمز، لكن عندما وصلتُ وجدتُ أنه مصنع لعظام الرُّكب الصناعيَّة، ولا أحد هناك سمعَ من قبل عن المستر وليَم موريس أو المستر دنكن روس.

سألَه هولمز: وماذا فعلت عندئذٍ؟

- عدتُ إلى منزلي في ميدان ساكس-كوبرج وطلبتُ نصيحة مساعدي، لكنه لم يستطِع أن يمدَّ لي يد العون بأيِّ شكل، وقال فقط إنَّ أخبارًا ستَبلُغني من العُصبة بالبريد إذا انتظرتُ. لكن ذلك لم يكفِ يا مستر هولمز، فلم أرغب في خسارة عملٍ هكذا دون أن أحرِّك ساكنًا. هكذا، لأني سمعتُ أنك رجل طيِّب يمنح النَّصيحة للمساكين الذين يحتاجون إليها، جئتك في الحال.

قال هولمز: وهو تصرُّف حكيم جدًّا. قضيَّتك شديدة الغرابة بحق، وسيُسعِدني أن أتولَّاها. حسبما قلت لي، أظنُّ أنَّ من المحتمَل أن تتعلَّق بها مسائل أخطر ممَّا يبدو للوهلة الأولى.

قال المستر جابز ويلسن: مسائل أخطر بالتَّأكيد! لقد خسرتُ أربعة جنيهاتٍ أسبوعيًّا!

علَّق هولمز: فيما يخصُّ شخصك، لا أرى أنَّ لك مظلمةً ما عند تلك العُصبة الغريبة، بل بالعكس، لقد أثريت بمقدار ثلاثين جنيهًا، ناهيك بالمعرفة الدَّقيقة التي جنيتها عن كلِّ موضوعٍ يندرج تحت حرف A. إنك لم تخسر شيئًا عن طريقهم.

- نعم يا سيِّدي، لكني أريدُ أن أعرف حقيقتهم ومَن هُم وماذا استهدَفوا من مزاولة تلك المزحة -لو أنها مزحة- معي. لقد كلَّفتهم دعابتهم تلك مبلغًا كبيرًا، اثنيْن وثلاثين جنيهًا ذهبيًّا.

- سنسعى لتوضيح تلك النِّقاط، لكن لديَّ سؤالًا أو اثنيْن لك أولًا يا مستر ويلسن. مساعدك هذا الذي لفتَ انتباهك إلى الإعلان في البداية، ما المدَّة التي قضاها في العمل معك؟

- شهرٌ تقريبًا وقتها.

- وكيف جاءَك؟

- استجابةً لإعلانٍ نشرته.

- وهو الوحيد الذي تقدَّم لشغل الوظيفة؟

- لا، نحو دستةٍ منهم.

- ولِمَ اخترته دون غيره؟

- لأنه بارع وقبلَ العمل بأجرٍ زهيد.

- بنصف الأجر في الحقيقة.

- أجل.

- وكيف يبدو ڤينسنت سپولدنج هذا؟

- صغير الحجم، قوي، سريع الحركة، حليق الوجه، لكن سنَّه تجاوَزت الثَّلاثين، ولديه على جبهته بُقعة بيضاء متخلِّفة عن حمض.

اعتدلَ هولمز في مقعده وقد لاحَت عليه حماسةٌ شديدة، وقال: كما حسبتُ. هل لاحظت أنَّ في أُذنيْه ثقبيْن للأقراط؟

- نعم يا سيِّدي. قال لي إن غجريَّةً ثقبَت أُذنيْه وهو بعدُ غلام.

أطلقَ هولمز همهمةً وهو يستغرق في تفكيرٍ عميق، ثم سألَ: وما زال معك؟

- أوه، نعم يا سيِّدي، لقد تركته لتوِّي.

- وهل اعتنى بعملك في غيابك؟

- لا يُوجَد ما يدعو إلى الشَّكوى يا سيِّدي، فالعمل صباحًا قليلٌ دائمًا.

- يكفي هذا القدر يا مستر ويلسن. سيُسعِدني أن أعطيك رأيي في هذه المسألة في غضون يومٍ أو اثنيْن. اليوم السبت، وآملُ بحلول الاثنين أن نتوصَّل إلى نتيجة.

عندما غادرَ ضيفنا قال هولمز: حسن يا واطسن، ما الذي تستنتجه من كلِّ هذا؟

أجبتُ بصراحة: لا أستنتجُ شيئًا. الأمر كلُّه شديد الغموض.

قال هولمز: من باب القاعدة، كلَّما بدا الشيء غريبًا اتَّضح أنه أقل غموضًا في الواقع، والجرائم المعتادة التي لا تحمل معالم مميَّزةً هي الأكثر إثارةً للحيرة، تمامًا عندما يَصعُب التَّعرُّف على وجهٍ تقليديٍّ عن غيره. على كلِّ حال، يجب أن أتحرَّك بسرعةٍ في تلك المسألة.

سألته: وما الذي تنتوي فعله؟

- سأدخِّنُ. إنها مسألة تحتاج إلى تدخين الغليون ثلاث مرَّات، وأرجو ألا تُحَدِّثني لمُدَّة خمسين دقيقةً.

ثم تكوَّر هولمز في مقعده رافعًا رُكبتيْه حتى أنفه المعقوف، وجلسَ بعينيْن مغلقتيْن وغليونه الأسود المصنوع من الطَّمي بارزٌ من فمه كمنقار طائرٍ غريب. أيقنتُ بأنه غابَ في النَّوم، وبدأتُ أستسلمُ للنَّوم بدوري، لكنه هبَّ من مقعده فجأةً بملامح رجلٍ حزمَ أمره أخيرًا، ووضعَ غليونه على رفِّ المدفأة قائلًا: پاپلو دي ساراساته (1) سيُقيم حفلًا بقاعة سانت جيمس ظُهر اليوم. ما رأيك يا واطسن؟ أيُمكن أن يستغني عنك مرضاك بضع ساعات؟

- ليس لديَّ ما أفعله اليوم، وعيادتي لا تستغرق كثيرًا من وقتي أبدًا.

- ضع قبَّعتك وهلمَّ إذًا. سأمرُّ بمركز المدينة المالي أوَّلًا، ويُمكننا أن نتناوَل الغداء في الطَّريق. لاحظتُ أن برنامج الحفل يتضمَّن قدرًا لا بأس به من الموسيقى الألمانيَّة التي تُناسِب ذوقي أكثر من الإيطاليَّة أو الفرنسيَّة. إنها موسيقى صالحة لمزاج التَّحقيق والتقصِّي، وأنا أريدُ أن أحقِّق وأتقصَّى. هيَّا بنا!

استقللنا قطار الأنفاق حتى آلدرزجايت، ثم قطعنا مسافةً قصيرةً سيرًا على الأقدام حتى ميدان ساكس-كوبرج، حيث مسرح القصَّة الفريدة من نوعها التي استمعنا إليها في الصَّباح. المكان صغيرٌ ضيِّق بالٍ، غير أنه يُحاوِل الحفاظ على قدرٍ من حُسن المنظر، وهو عبارةٌ عن أربعة صفوفٍ من منازل متداعية مبنيَّة بالقرميد يرتفع كلٌّ منها طابقيْن، وتطلُّ على مساحةٍ صغيرة مغلقة بسياجٍ معدني، فيها حديقةٌ صغيرة تنتشر بها الحشائش الضَّارَّة، وبضع أيكاتٍ من ورد الغار يشي لونها بصراعٍ عنيف مع الجوِّ الغائم المفعم بالدُّخان. أعلنَت ثلاث كُراتٍ مطليَّة بالذهب معلَّقة على باب منزلٍ في زاوية الشَّارع، مع لافتة بنيَّة كُتِبَ عليها «جابز ويلسن» بحروفٍ بيضاء، أنَّ هذا هو المكان الذي يُزاوِل فيه عميلنا ذو الشَّعر الأحمر عمله. توقَّف شرلوك هولمز أمام المكان ورأسه مائلٌ إلى الجانب وظلَّ يُحدِّق إليه بعينيْن تتألَّقان بشدَّةٍ بين جفنيْه المجعَّديْن، ثم تحرَّك ببُطءٍ عبر الشَّارع، ثم عادَ مرَّةً أخرى إلى الزَّاوية ليَرمُق المنازل بنظراتٍ حادَّة، قبل أن يعود أخيرًا إلى المنزل ومحل الرُّهونات، ويدقَّ بقوَّةٍ شديدة على الرَّصيف مرَّتيْن أو ثلاثًا مستخدمًا عصاه، وأخيرًا اتَّجه إلى الباب وطرقَه. انفتحَ الباب في الحال، ولاحَ من ورائه شابٌّ وسيم حليق طلبَ من هولمز الدُّخول.

قال هولمز: أشكرك، لكني أبغي فقط أن أعرف كيف أصلُ إلى شارع ستراند من هنا.

أجابَ المساعد وهو يُغلِق الباب سريعًا: ثالث يمين، ثم رابع يسار.

وعلَّق هولمز ونحن نبتعد: شابٌّ ذكي. إنه في رأيي رابع أذكى رجلٍ في لندن، وأعتقدُ أن جرأته تُؤهِّله لأن يُصبِح الثَّالث. إنَّ لديَّ معرفةً سابقةً به.

قلتُ: من الجليِّ أنَّ مساعد المستر ويلسن يُعَدُّ جزءًا لا يتجزَّأ من الغموض المحيط بعُصبة ذوي الشَّعر الأحمر تلك. لا شكَّ أنك استفسرت عن الطريق لمجرَّد أن تُلقي عليه بنظرة.

- ليس عليه هو.

- ماذا إذًا؟

- على رُكبتَي بنطاله.

- وماذا رأيت؟

- ما توقَّعتُ أن أراه.

- ولِمَ طرقت بعصاك على الرَّصيف؟

- طبيبي العزيز، الوقت وقت الملاحظة لا الكلام. إننا جاسوسان في أرضٍ معادية، وقد صرنا نعرف الآن بضع أشياء عن ميدان ساكس-كوبرج، فدعنا نستكشف الأماكن التي تقع وراءه.

الطَّريق الذي وجدنا نفسيْنا فيه -ونحن ندور حول زاوية ميدان ساكس-كوبرج المنعزل- تبايَن معه بشدَّة، تمامًا كما يتبايَن ظهر الصُّورة مع وجهها. إنه واحدٌ من الشَّرايين الأساسيَّة التي يسري عبرها المرور من مركز لندن المالي إلى الشَّمال والجنوب. الطَّريق نفسه تُغلِقه حركة التِّجارة الكثيفة الدَّاخلة والخارجة، فيما تصطبغ الأرصفة بالأسود من فرط المارَّة، ومن الصَّعب أن تُدرِك وأنت ترى صفَّ المحال المحترمة ومقارَّ الشَّركات التِّجاريَّة الفخمة أنها تُتاخِم الجانب الآخَر من الميدان البالي السَّاكن الذي خرجنا منه للتَّوِّ.

قال هولمز وهو واقفٌ عند النَّاصية رامقًا صفَّ المحال: لنرَ. أريدُ فقط أن أتذكَّر ترتيب المنازل هنا، فمن هواياتي أن أعرف لندن معرفةً دقيقةً. هناك مورتمر بائع التَّبغ، ومحل الجرائد الصغير، وفرع كوبرج من بنك ستي آند سبربَن، ومطعم المأكولات النَّباتيَّة، وورشة مكفارلن لتصنيع العربات. تقودنا هذه مباشرةً إلى مربَّع الأبنية الآخَر. ها قد فرغنا من عملنا يا دكتور وحانَ وقت اللَّعب. نتناوَل شطيرةً وقدحًا من القهوة ثم ننطلق إلى أرض أنغام الكمان، حيث كلُّ شيءٍ عبارة عن حلاوةٍ ورقَّة وتناغم بلا عُملاء حُمر الشَّعر يُزعِجوننا بألغازهم.

عشقَ صديقي الموسيقى، خصوصًا أنه هو نفسه مغنٍّ قدير جدًّا وملحِّن صاحب موهبةٍ غير تقليديَّة. ظلَّ هولمز جالسًا على مقعده في المسرح طوال الظهيرة، تحفُّه سعادة لا يُضاهيها شيء ويُلوِّح بأصابعه الطَّويلة الرَّفيعة برفقٍ مع نغمات الموسيقى، وقد اختلفَت ملامحه الباسمة وعيناه المسترخيتان الحالمتان لأقصى درجةٍ عن ملامح هولمز المحقِّق السرِّي وهولمز خبير الجرائم المثابر سريع البديهة. في شخصيَّته الفريدة من نوعها تلك فرضَ الازدواج في طبيعته نفسه بالتَّبادُل، ومثَّلت دقَّته وبراعته الخالصتان -كما خطر لي دائمًا- ردَّ فعلٍ ضد المزاج الشِّعري المتأمِّل الذي يُسيطِر عليه أحيانًا. أخذَه التَّبدُّل في طبيعته من الكسل التَّام إلى النَّشاط المطلق، وعرفتُ جيِّدًا أنَّ هولمز لا يُثير الرَّهبة حقًّا إلَّا حينما يظلُّ أيَّامًا طويلةً في مقعده بين مؤلَّفاته المرتجلة ومجلَّداته القديمة. ثم تأتي شهوة المطاردة لتحتلَّ كيانه على حين غرَّة، وترتقي حينئذٍ قُدرته على التَّفكير والاستنتاج إلى حدِّ الحدس، فيَنظُر إليه مَن لم يعتادوا أساليبه بدهشةٍ كأنهم يرون أمامهم رجلًا يتحلَّى بمعارف لا يستطيع بشريٌّ التَّحصُّل عليها. وعندما رأيته في تلك الظَّهيرة مستغرقًا مع أنغام الموسيقى في قاعة سانت جيمس، خطرَ لي أن أوقاتًا عصيبةً في طريقها إلى الإحاقة بمَن يعزم هولمز على مطاردتهم والنَّيل منهم.

قال هولمز ونحن نُغادِر القاعة: لا شكَّ أنك تريد العودة إلى منزلك يا دكتور.

- نعم، لا بأس بهذا.

- وأنا لديَّ عمل سيستغرق مني بضع ساعات. تلك المسألة في ميدان كوبرج جدُّ خطيرة.

- ولِمَ؟

- ثمَّة جريمة كُبرى تُرتكَب، ولديَّ كلُّ ما يدعوني إلى الثِّقة بأننا سنمنعها في الوقت المناسب. لكن كون اليوم سبتًا يُعقِّد الأمور، وسأحتاجُ إلى مساعدتك الليلة.

- في أيِّ وقت؟

- العاشرة وقت مبكِّر كفايةً.

- سأصلُ إلى بيكر ستريت في العاشرة إذًا.

- عظيم. اسمع يا دكتور، قد ينطوي الأمر على شيءٍ من الخطر، لذلك أطلبُ منك أن تحتفظ بمسدَّس الجيش الذي تملكه في جيبك.

ولوَّح هولمز بيده ودارَ على عقبيه وغاب في لحظةٍ في الزِّحام.

أثقُ بأني لستُ أبطأ تفكيرًا من أقراني، ولكن طارَدني دائمًا إحساسٌ بغبائي في تعامُلي مع شرلوك هولمز. هأنذا سمعتُ ما سمعَه ورأيتُ ما رآه، إلَّا أنَّ من الواضح من كلامه أنه لم تبيَّن ما حدثَ فقط، بل ما على وشك أن يَحدُث كذلك، في حين ظلَّت المسألة كلُّها في نظري معقَّدةً غريبةً. أخذتُ في طريقي إلى منزلي في كنسنجتن أفكِّرُ في كلِّ ما جرى، من قصَّة ناسخ الموسوعة البريطانيَّة أحمر الشَّعر إلى زيارتنا ميدان ساكس-كوبرج والكلمات المنذرة بالخطر التي قالها هولمز وهو يُفارِقني. ما طبيعة تلك الحملة اللَّيليَّة ولِمَ ينبغي أن أذهب مسلَّحًا؟ أين سنذهب وماذا سنفعل؟ لقد استنتجتُ من هولمز أنَّ مساعد صاحب محل الرُّهونات حليق الوجه رجل خطير، رجل قد يلعب لُعبةً معقَّدةً. حاولتُ أن أخمِّن لُعبته، لكني يئستُ من المحاولة في النِّهاية ونحَّيتُ المسألة جانبًا إلى أن يأتينا اللَّيل بتفسير.

 كانت السَّاعة التَّاسعة والرُّبع عندما غادرتُ منزلي وقطعتُ طريقي عبر هايد پارك ثم أُكسفورد ستريت إلى بيكر ستريت. رأيتُ عربتَي أجرة متوقِّفتيْن عند الباب، ولدى دخولي الرُّواق سمعتُ أصواتًا تتكلَّم في الطَّابق العُلوي. لمَّا دخلتُ الغُرفة وجدتُ هولمز في حوارٍ ساخن مع رجليْن تعرَّفت على أحدهما بصفته پيتر جونز محقِّق الشُّرطة الرَّسمي، والآخَر رجل طويل نحيف، له وجهٌ حزين ويعتمر قبَّعةً لامعةً جدًّا ويرتدي سُترةً شديدة الأناقة.

قال هولمز وهو يُزرِّر معطفه ويلتقط سوط الصَّيد الثَّقيل من فوق الرف: ها! اكتملَت مجموعتنا. واطسن، أعتقدُ أنك تعرف المستر جونز من سكوتلاند يارد؟ ودعني أقدِّمُ لك المستر مريوِذَر الذي سيُرافِقنا في مغامرة اللَّيلة.

قال جونز بطريقته المتعالية: ها قد عُدنا إلى المطاردة في أزواجٍ كما ترى يا دكتور. صديقنا هذا أفضل مَن يبدأ مطاردةً، وكلُّ ما يحتاج إليه هو كلبٌ عجوز للإيقاع بالفريسة.

علَّق المستر مِريوِذَر بكآبة: أرجو ألَّا تكون مطاردةً بلا طائل في النِّهاية.

قال محقِّق الشُّرطة بغطرسة: لك أن تضع كامل ثقتك بالمستر هولمز يا سيِّدي، فلديه أساليبه الخاصَّة التي أعتبرها -إذا سمحت لي بأن أقول هذا- نظريَّةً وغريبةً أكثر من اللَّازم، لكنه يتمتَّع بالخصال التي تُؤهِّله لأن يكون محقِّقًا، وليس من قبيل المبالغة أن أقول إنه في غير مرَّةٍ، كما في قضيَّة مقتل شولتو أو كنز أجرا، كان على حقٍّ أكثر من رجال الشُّرطة الرسميِّين.

قال الغريب بإذعان: لا بأس إذًا ما دامَ هذا رأيك يا مستر جونز، لكني أعترفُ بأني أفتقدُ لُعبة الرَّبر بريدج التي أحبُّها، فهذه هي أوَّل ليلة سبتٍ منذ سبعةٍ وعشرين عامًا لا ألعبها فيها.

خاطبَه شرلوك هولمز قائلًا: أظنُّ أنك ستلعب اللَّيلة على مكسبٍ أكبر من أيِّ شيءٍ لعبت عليه من قبل، وأنك ستجد اللُّعبة أشد إثارةً. بالنِّسبة إليك يا مستر مريوِذَر فالمكسب عبارة عن ثلاثين ألف جنيه، وبالنِّسبة إليك يا جونز فهو الرَّجل الذي تتمنَّى القبض عليه.

قال المحقِّق: جون كلاي، القاتل واللِّص والمخرِّب والمزوِّر. إنه شابٌّ يا مستر مِريوِذَر، لكنه في طليعة مهنته تلك، وأفضِّلُ أن تُحيط أصفادي بمعصميْه على أن تُحيط بمعصمَي أيِّ مجرمٍ آخَر في لندن. جون كلاي هذا شابٌّ غير تقليدي، وقد كان جدُّه دوقًا من عائلةٍ ملكيَّة، وهو نفسه درسَ في إتون وأُكسفورد. إنَّ عقله لماكر كأصابعه، ورغم أننا نجد علاماتٍ على وجوده طوال الوقت فإننا نعجز دائمًا عن العثور على الرَّجل نفسه. ستجده يسرق منزلًا في سكوتلندا في أحد الأسابيع، وفي الأسبوع الذي يليه يجمع المال لأجل بناء دارٍ للأيتام في كورنوول. إنني أقتفي آثاره منذ سنوات، ومع ذلك لم تقع عيناي عليه بعدُ.

قال هولمز: آملُ أن أحظى بمُتعة تقديمكما اللَّيلة. لقد خضتُ مواجهةً أو مواجهتيْن صغيرتيْن عن نفسي مع المستر جون كلاي، وأتَّفقُ معك أنه في طليعة مهنته بالفعل. لكن الساعة تجاوزَت العاشرة، وحانَ الوقت لنتحرَّك. يُمكنكما استقلال العربة الأولى، وسألحقُ بكما مع واطسن في الأخرى.

لم يتكلَّم هولمز كثيرًا خلال الطَّريق الطَّويل، واكتفى بالاستلقاء في العربة يُدندِن الألحان التي سمعَها في الظَّهيرة. قطعنا متاهة الشَّوارع المضاءة بمصابيح الغاز، وفي النِّهاية بلغنا فارنجتن ستريت، فعلَّق صديقي: اقتربنا. هذا الرجل مِريوِذَر مدير بنك ومهتمٌّ بالمسألة بشكلٍ شخصي، وخطرَ لي أنَّ من الأفضل أن يُصاحِبنا جونز كذلك. إنه ليس رجلًا سيِّئًا، ولو أنه أحمق كبير في عمله، لكنه يتمتَّع بمزيَّةٍ إيجابيَّة واحدة، فهو شجاعٌ ككلاب الصَّيد وعنيد كسرطان البحر إذا قبضَ بمخالبه على أيِّ أحد. لقد وصلنا، وها هما ذان في انتظارنا.

بلغنا الشَّارع المزدحم الذي وجدنا نفسيْنا فيه نهارًا، فصرفنا العربتيْن وتبعنا المستر مِريوِذَر عبر ممرٍّ ضيِّق، ثم دخلنا من بابٍ جانبيٍّ فتحَه لنا. في الدَّاخل رواقٌ صغير انتهى عند بوَّابةٍ حديديَّة عملاقة فُتِحَت بدورها لتُفضي إلى سلالم حجريَّة ملتفَّة، انتهت عند بوَّابةٍ أخرى تُثير الرَّهبة. توقَّف المستر مِريوِذَر ليُشعِل فانوسًا، ثم قادَنا عبر ممرٍّ مظلمٍ تفوح منه رائحة التُّربة، وبعد أن فتحَ بابًا ثالثًا دخلنا إلى خزينةٍ أو قبوٍ شديد الاتِّساع تكوَّمت في جميع أرجائه أقفاص وصناديق ضخمة.

قال هولمز وهو يرفع الفانوس ويتطلَّع حوله: لستم معرَّضين للهجوم من أعلى.

أضافَ المستر مِريوِذَر وهو يضرب الأحجار التي افترشَت الأرض بعصاه: ولا من أسفل كذلك.

لكنه سرعان ما رفعَ عينيْه مردفًا بدهشة: ربَّاه! هذه البُقعة جوفاء تمامًا!

قال هولمز بحدَّة: أريدك أن تتحلَّى بمزيدٍ من الهدوء. لقد عرَّضت نجاح مهمتنا كلها للخطر بالفعل، فهلَّا جلست على أحد تلك الصناديق دون أن تتدخَّل؟

جلسَ المستر مِريوِذَر الوقور على أحد الأقفاص وقد اعتلى ملامحه تعبيرٌ جريح للغاية، فيما جلسَ أرضًا هولمز على رُكبتيه، ثم بدأ يفحص الشُّقوق بين الأحجار بعنايةٍ مستخدمًا الفانوس وعدسةٍ مكبِّرة، ويبدو أنَّ بضع ثوانٍ كفَت لإشعاره بالرِّضا، فقد نهضَ واقفًا على قدميه من جديدٍ ووضعَ العدسة في جيبه قائلًا: أمامنا ساعة على الأقل، فمن الصعب أن يتَّخذوا أيَّ خُطواتٍ قبل أن يغيب سمسار الرُّهونات في النوم، وبعدها لن يتلكَّؤوا دقيقةً واحدةً، فكلَّما بدؤوا عملهم مبكِّرًا وجدوا وقتًا كافيًا للهرب. حاليًّا يا دكتور -كما خمَّنت لا شكَّ- نحن في قبو فرع المركز المالي لواحدٍ من أهمِّ بنوك لندن، والمستر مِريوِذَر هو رئيس مجلس الإدارة، وسيشرح لك أنَّ هنالك من الأسباب ما يجعل أجرأ مجرمي لندن يصبُّون اهتمامهم كلَّه على هذا القبو في الوقت الرَّاهن.

 قال المدير هامسًا: إنه ذهبنا الفرنسي. تلقَّينا تحذيراتٍ عدَّةً من محاولة أحدهم سرقته.

- ذهبكم الفرنسي؟

- نعم. منذ بضعة شهورٍ دفعَتنا الضَّرورة إلى تعزيز مواردنا، ولهذا الغرض اقترضنا ثلاثين ألف ناپوليون من بنك فرنسا، ولقد أصبحَ معروفًا أنَّ الفُرصة لم تُواتِنا لتفريغ النُّقود، وأنها لا تزال في قبو البنك. القفص الذي أجلس عليه يحوي ألفَي ناپوليون مرصوصةً بين طبقاتٍ من رقائق الرَّصاص. مخزوننا من السَّبائك أكبر كثيرًا حاليًّا من الكمِّيَّة التي يُحتفَظ بها عادةً في فرعٍ واحد، وقد راودَت الهواجس مجلس الإدارة بسبب هذه المسألة.

علَّق هولمز: وهي الهواجس المبرَّرة للغاية. والآن حانَ الوقت للإعداد لخطَّتنا الصغيرة، إذ أتوقَّعُ أنَّ الأمور ستحتدم خلال ساعةٍ من الزمن. في الوقت الحالي يا مستر مِريوِذَرـ علينا أن نضع حاجبًا على ذلك الفانوس.

- ونجلس في الظَّلام؟

- للأسف. لقد أحضرتُ مجموعةً من أوراق اللَّعب في جيبي، وخطرَّ لي أنه ما دُمنا أربعةً منا فستلعب الرَّبر بريدج اللَّيلة رغم كلِّ شيء. لكني أرى الآن أنَّ تجهيزات خصومنا بلغَت مدًى بعيدًا لا يسمح لنا بالمجازفة بوجود الضوء. علينا قبل كلِّ شيءٍ أن نختار مواقعنا، فمَن سنُواجِههم رجالٌ شُجعان، ورغم أننا سنأخذهم على حين غرَّة فقد يُؤذوننا إذا لم نتوخَّ الحذر. سأقفُ وراء هذا القفص، وأنتم عليكم إخفاء أنفُسكم وراء تلك الأقفاص، ثم عندما أسلِّطُ الضَّوء عليهم أريدكم أن تهجموا بسرعة. إذا أطلقوا النَّار فلا تتردَّد في إردائهم يا واطسن.

وضعتُ مسدِّسي مصليًّا فوق الصُّندوق الخشبيِّ الذي ربضتُ وراءه، ووضعَ هولمز الحاجب على الفانوس الذي يحمله تاركًا إيانا في ظلامٍ دامس لم أعرف له مثيلًا من قبل، وإن ظلَّت رائحة المعدن الساخن حاضرةً لتُطمئِننا أنَّ الضوء موجود وجاهز للسُّطوع في لحظة. بالنِّسبة إليَّ، وقد توتَّرت أعصابي تمامًا من فرط التَّرقُّب، استشعرتُ شيئًا يُثير الشَّجن والهدوء في الظُّلمة المفائجة وهواء الخزينة البارد الرَّطب.

سمعتُ هولمز يهمس: ليس لديهم إلَّا سبيل واحد للانسحاب، أي الرُّجوع إلى المنزل والخروج منه إلى ميدان ساكس-كوبرج. آملُ أنك فعلت ما طلبته منك يا جونز.

- أمرتُ مفتِّشًا وضابطيْن بالانتظار عند الباب الأمامي.

- إذًا فقد سددنا جميع الثغرات. علينا الآن أن نلزم الصمت وننتظر.

ويا للتَّواني الذي مرَّ به الوقت! بعد مقارنة الملاحظات لاحقًا وجدتُ أنَّ ساعةً ورُبعًا لا أكثر مرَّت، وإن شعرتُ وقتها كأن اللَّيل يكاد ينتهي، والفجر في أعقابه. شعرتُ بأطرافي وقد اعتراها التَّعب والتَّصلُّب، فقد خشيت أن أبدِّل وضعي، في حين صارَت أعصابي مرهفةً لأقصى حد، وسمعي حادًّا لدرجةٍ لم تجعلني أسمع أنفاس رفاقي الهادئة فحسب، بل جعلَتني أميِّزُ الأنفاس العميقة الثَّقيلة الصَّادرة من جونز ذي الجسد الضَّخم من أنفاس مدير البنك الرَّقيقة. من موقعي استطعتُ النَّظر من فوق الصُّندوق نحو الأرضيَّة، وفجأةً التقطَت عيناي بصيصًا من الضوء.

في البدء كان مجرَّد ضوءٍ شاحب على الأرضيَّة الحجريَّة، قبل أن يستطيل ليستحيل إلى خطٍّ أصفر، ثم دون صوتٍ أو سابق إنذارٍ ظهرَت في الأرض فتحةٌ خرجَت منها يدٌ بيضاء أقرب إلى يد امرأة، أخذَت تتحسَّس ما حولها في مركز الضَّوء. لدقيقةٍ أو أكثر ظلَّت اليد وأصابعها الملتوية بارزةً من الأرض، ثم اختفَت بالسُّرعة التي ظهرت بها ليسود من جديدٍ الظَّلام التام، باستثناء بُقعةٍ واحدة منيرة بضوءٍ باهت تأتي من الشَّقِّ بين الأحجار.

على أنَّ غياب اليد لم يستغرق إلَّا قليلًا، فسرعان ما صدرَت أصوات انتزاعٍ واقتلاع، وانقلبَ واحدٌ من الأحجار البيضاء العريضة على جانبه ليَترُك فتحةً مربَّعةً واسعةً تدفَّق عبرها ضوء فانوس، ومن الحافة لاحَ وجهٌ صبيانيٌّ حليق أخذَ يتطلَّع حوله بإمعان، قبل أن يتَّكئ الشَّاب على يديْه الموضوعتيْن على جانبَي الفتحة ويسحب نفسه إلى أعلى حتى برزَت كتفاه وخصره، ثم ارتكنَت رُكبته أخيرًا إلى الحافة، ولم تمرَّ لحظةٌ أخرى حتى وقفَ على حافة الفتحة ليسحب إلى أعلى رفيقًا لا يقلُّ عنه نحافةً أو رشاقةً، له وجه شاحب وشعر أحمر ناري.

همسَ الشاب: المكان آمِن. الإزميل والحقائب معك؟ بحقِّ السماء! اقفز يا آرشي، اقفز وسأمسكُ بك!

وفي تلك اللَّحظة وثبَ شرلوك هولمز ليقبض على المقتحم من ياقة قميصه، فيما اختفى الآخَر داخل الفتحة، وسمعتُ صوت قماشٍ يتمزَّق إذ تمسَّك جونز بأعقابه. سطعَ الضَّوء على ماسورة مسدَّس، لكن سوط هولمز هوى على معصم الرجل، ليَسقُط المسدَّس على الأرضيَّة الحجريَّة محدثًا رنينًا.

قال هولمز بهدوء: لا فائدة يا جون كلاي. ليست لديك فرصة على الإطلاق.

أجابَ الآخَر بمنتهى الهدوء: على ما يبدو. أعتقدُ أن زميلي بخير، ولو أني أرى أنك مزَّقت ذيل معطفه.

قال هولمز: ثلاثة رجال ينتظرونه على الباب.

- ممتاز! يبدو أنك أدَّيت عملك على أكمل وجه، ويجب أن أهنِّئك.

قال هولمز: وعليَّ أن أهنِّئك بدوري. فكرتك عن ذوي الشَّعر الأحمر جديدة ومؤثِّرة حقًّا.

قال جونز: سترى زميلك قريبًا. إنه أسرع مني في تسلُّق الفتحات. انتظر حتى أنظِّم مسابقةً لهذا النَّشاط!

قال سجيننا والأصفاد تُوصَد حول معصميْه: أرجو ألا تلمسني بيديْك القذرتيْن، فلعلَّك لا تدري أن الدَّم الملكيَّ يجري في عروقي. أرجو أيضًا أن تُخاطِبني بـ«يا سيِّدي» و«من فضلك» دائمًا.

بضحكةٍ نصف مكتومة قال جونز ناظرًا إليه شزرًا: ليكن. هلَّا تفضَّلت يا سيِّدي بالاتِّجاه إلى أعلى لنجد عربةً تأخذ سموَّك إلى قسم الشُّرطة؟

قال جون كلاي بهدوء: هذا أفضل.

ثم انحنى بشدَّةٍ أمام ثلاثتنا، قبل أن يتَّجه إلى أعلى بخُطواتٍ هادئة في صُحبة المحقِّق.

قال المستر مِريوِذَر ونحن نُغادِر القبو وراءهما: مستر هولمز، لا أدري حقًّا كيف يُمكن للبنك أن يَشكُرك أو يردَّ لك الجميل. لا شكَّ أنك كشفت ومنعت واحدةً من أقوى محاولات السَّطو على البنوك التي سمعتُ بها على الإطلاق.

قال هولمز: كان لديَّ عن نفسي حسابٌ أسوِّيه مع المستر جون كلاي. لقد أنفقتُ مبلغًا صغيرًا خلال هذه المسألة أتوقَّعُ أن يردَّه البنك، لكن فيما عدا ذلك فقد رُدَّ لي الجميل عن سعةٍ عندما خضتُ تجربةً فريدةً من نواحٍ عدَّة، وعندما سمعتُ حكاية عُصبة ذوي الشَّعر الأحمر الغريبة.

حين جلسنا في ساعات الصَّباح الأولى نشرب الويسكي والصودا في بيكر ستريت شرحَ لي هولمز قائلًا: كما ترى يا واطسن، كان واضحًا تمامًا من البداية أن الهدف المحتمَل الوحيد من تلك المسألة الفريدة الخاصَّة بإعلان العُصبة ونسخ الموسوعة البريطانيَّة، هو إزاحة سمسار الرُّهونات -الذي لا يتحلَّى بكثيرٍ من الذَّكاء- عن الطريق لعددٍ من السَّاعات يوميًّا. الوسيلة التي استخدماها غريبة بالفعل، لكنني لا أستطيعُ التَّفكير في وسيلةٍ أفضل، ولا بُدَّ أنَّ عقل كلاي تفتَّق عن الفكرة من خلال لون شعر زميله. الأربعة جنيهات أسبوعيًّا كانت السبيل لإغراء ويلسن، وهي بالتَّأكيد ليست بالمبلغ الكبير وهما يستهدفان آلاف الجنيهات. نشرَ المجرمان الإعلان في الجريدة، واستقرَّ أحدهما في المكتب المؤقَّت، فيما عملَ الآخَر على حثِّ الرَّجل على التقدُّم للوظيفة، ومعًا تأكَّدا من غيابه عن المكان في كلِّ صباحٍ من الأسبوع. من اللَّحظة التي سمعتُ فيها أنَّ المساعد وافقَ على العمل بنصف الأجر، بدا جليًّا لي أنَّ لديه دافعًا قويًّا للحصول على ذلك العمل.

- ولكن كيف خمَّنت الدَّافع؟

- لو أنَّ في المنزل نسوةً لشككتُ في دافعٍ مشين، ولكن لا محلَّ لذلك. إنَّ للرَّجل تجارةً صغيرةً، وليس في المنزل ما يدعو إلى ترتيباتٍ بهذا الإحكام أو المبلغ الذي أنفقوه. لا بُدَّ إذًا أنَّ الهدف يقع خارج المنزل، فماذا يُمكن أن يكون؟ فكَّرتُ في غرام المساعد بالتَّصوير الفوتوجرافي، والحيلة التي يختفي بها في القبو. إنه القبو إذًا! هكذا توصَّلتُ إلى نهاية تلك المعلومة المعقَّدة. ثم إنني استعلمتُ عن ذلك المساعد الغامض ووجدتُ أني أتعاملُ مع واحدٍ من أجرأ مجرمي لندن وأكثرهم برودة أعصاب. لقد مارسَ عملًا ما في القبو، عملًا يستغرق عدَّة ساعاتٍ يوميًّا ولمدَّة شهور، فماذا يُمكن أن يكون؟ الاحتمال الوحيد الذي استطعتُ التَّفكير فيه، أنه يَحفُر نفقًا يقود إلى مبنًى آخَر.

هذا هو كلُّ ما توصَّلتُ إليه عندما ذهبنا لزيارة مسرح الأحداث. لقد أدهشك أني طرقتُ على الرَّصيف بعصاي، وكنتُ لحظتها أحاولُ التَّحقُّق من امتداد القبو من أمام المنزل أم من خلفه، ولم أجده يمتدُّ من الأمام. ثم إنني رننتُ الجرس، وفتحَ المساعد الباب كما أملتُ. سبقَ أن وقعَت بيننا مناوشات، لكن أحدنا لم يُلقِ بنظرةٍ على وجه الآخَر قَطُّ. على أني لم أنظر إلى وجهه كثيرًا، فرُكبتاه هما ما أردتُ أن أرى، ولا بُدَّ أنك نفسك لاحظت أنَّ سرواله مهترئ مجعَّد مبقَّع عند الرُّكبتيْن، وهو ما وشى لي بالسَّاعات التي يقضيها في الحفر. النُّقطة الوحيدة التي تبقَّت هي المكان الذي يَحفُران النَّفق إليه. هكذا درتُ حول منزل صديقنا ورأيتُ بنك ستي آند سبربَن متاخمًا له، وعندها شعرتُ أنَّ المسألة حُلَّت، وحين عدتَ إلى منزلك بعد الحفل اتَّصلتُ بسكوتلاند يارد ورئيس مجلس إدارة البنك، والنَّتيجة كما رأيت.

سألته: وكيف عرفت أنهما سيُنفِّذان السَّطو اللَّيلة؟

- عندما أغلقا مكتب العُصبة دلَّ هذا على أنهما لم يعودا يُبالِيان بوجود المستر جابز ويلسن، أي إنهما فرغا من حفر النَّفق، ولكن وجبَ أن يستخدماه قريبًا خشية أن يُكتشَف أمره أو تُنقَل سبائك الذَّهب إلى مكانٍ آخَر، والسَّبت يُناسِبهما أكثر من أيِّ يومٍ آخَر، لأنه يُتيح لهما يوميْن كامليْن للهرب، ولكلِّ تلك الأسباب توقَّعتُ أن يُنفَّذ السَّطو اللَّيلة.

هتفتُ بإعجابٍ لا تشوبه شائبة الادِّعاء: استنتجتَ كلَّ شيءٍ على نحوٍ مذهل! إنها سلسلةٌ طويلة حقًّا، لكن كلَّ حلقةٍ فيها مُحكمة بالفعل.

أجابَ هولمز وهو يتثاءَب: لقد أنقذَتني هذه القضيَّة من الملل، غير أني أشعرُ به ينتابني من جديدٍ للأسف! إنني أقضي حياتي في مسعى واحدٍ طويل للفرار من كلِّ ما هو تقليديٌّ في الحياة، وتلك المسائل الصغيرة تُساعِدني على هذا.

قلتُ: وأنت راعٍ لهذا السِّباق.

هزَّ كتفيه قائلًا: ولعلَّ الفائدة منه محدودة رغم كلِّ شيء، فكما كتبَ جوستاڤ فلاوبرت إلى جورج ساند، الإنسان لا شيء والعمل كلُّ شيء.



(1) پاپلو دي ساراساته: ملحِّن إسپاني من الحقبة الرومنسيَّة، من أشهر أعماله «الرَّقصات الإسپانيَّة» و«خيال كارمن». (المُترجم).