30-مايو-2023
Moj_peter_mohrbacher_style_neil_gaiman_character_Corinthian_por_45220d95-f648-453a-b083-1f1d65bae509

صورة مولدة عبر نموذج الذكاء الاصطناعي (MidJourney)

نيل جايمان روائي إنجليزي له روايات عديدة منها: "آلهة أمريكية" و"كتاب المقبرة".


قال الشَّيطان: "الزَّمن مائعٌ هنا".

عرفَ أنه شيطان لحظة أن رآه. عرفَ هذا، تمامًا كما عرفَ أنَّ هذا المكان هو الجحيم، فلا يُمكن أن يكون هذا إلَّا شيطانًا، ولا يُمكن أن تكون هذه إلَّا الجحيم.

الغُرفة طويلة، والشَّيطان ينتظر في طرفها القصىِّ عند مستوقدٍ يتصاعَد منه الدُّخان، وقد عُلِّقَت عدَّةٌ من الأدوات على الجُدران ذات اللَّون الرَّمادي الصَّخري، أدوات من النَّوع الذي لا حكمة في تفحُّصه من كثبٍ ولا طمأنة، والسَّقف واطئ، والأرضيَّة رخوة على نحوٍ غريب.

قال الشَّيطان: "اقترِب"، فاقتربَ.

الشَّيطان شديد النُّحول وعارٍ، وفي جسمه ندوبٌ بلا عدد، ويبدو أنَّ جلده سُلِخَ في وقتٍ ما في الماضي البعيد. إنه بلا أُذنيْن وبلا جنس، وشفتاه رفيعتان مشقَّقتان، وعيناه عينا شيطان، رأيتا كثيرًا جدًّا وخبرَتا كثيرًا جدًّا، وتحت نظراتهما شعرَ أنه أحقر من ذُبابة.

سألَ: "ماذا سيَحدُث الآن؟".

أجابَ الشَّيطان بصوتٍ لا يحمل أيَّ أسفٍ أو أيَّ استمتاع، بل استسلام رتيب مخيف: "الآن تُعذَّب".

- "لكم من الوقت؟".

لكن الشَّيطان هزَّ رأسه ولم يردَّ، بل سارَ ببُطءٍ بحذاء الجدار رامقًا واحدةً من الأدوات المعلَّقة أوَّلًا، ثم أخرى. عند أقصى الجدار، قُرب الباب المغلق، سوطٌ من الصِّنف المسمَّى "القطَّة ذات الذُّيول التِّسعة"، مصنوعٌ من الأسلاك المنسَّلة. التقطَه الشَّيطان بيده ثُلاثيَّة الأصابع وعادَ حاملًا إيَّاه بتبجيل، ثم وضعَ شوكاته السِّلكيَّة فوق المستوقَد، وحدَّق إليها فيما بدأت تَسخُن.

- "هذه وحشيَّة".

- "بالضَّبط".

اتَّقدت أطراف ذيول القطَّة بلونٍ برتقاليٍّ مُطفأ، وإذ رفعَ الشَّيطان ذراعه ليهوي بالضَّربة الأولى، قال: "مع الوقت سوف تتذكَّر هذه اللَّحظة باشتياق".

- "أنت كاذب".

قال الشَّيطان: "لا"، وأتبعَ مفسِّرًا قبل نزول الضَّربة بلحظةٍ واحدة: "لأن ما سيلي هذا أسوأ"، ثم حطَّت شوكات القطَّة على ظهر الرَّجل بطقطقةٍ وهسيس، تشقُّ ملابسه الثَّمينة وتحرق وتُمزِّق وتهتك، وليس للمرَّة الأخيرة في هذا المكان صرخَ.

على جُدران تلك الغُرفة 211 أداة، ومع الوقت سيختبر كلًّا منها.

وأخيرًا، عندما عادَت الأداة الأخيرة -التي أصبحَ يعرف كلَّ شيءٍ عن استخداماتها معرفةً حميميَّةً- نظيفةً إلى موضعها الحادي عشر بعد المئتيْن على الجدار، قال لاهثًا من بين شفتيْن خربتيْن: "والآن ماذا؟".

قال الشَّيطان: "الآن يبدأ الألم الحقيقي".

وبدأ.

كلُّ شيء فعلَه ووجبَ ألَّا يفعله. كلُّ كذبةٍ قالها، قالها لنفسه أو قالها للآخَرين. كل ُّألمٍ صغير وكلُّ الآلام الكُبرى. كلُّ هذا استُخلِصَ منه تفصيلةً تفصيلةً، حُذفورًا حُذفورًا. مزَّق الشَّيطان غلاف النِّسيان، مزَّق كل شيء حتى وصلَ إلى الحقيقة، والحقيقة ألمها أشدُّ من كلِّ ما سبقَ.

قال الشَّيطان: "أخبِرني فيمَ فكَّرت عندما خرجَت من الباب".

- "فكَّرتُ أنها كسرَت قلبي".

بلا كراهيةٍ قال الشَّيطان: "لا، لم تُفكِّر في ذلك"، ونظرَ إليه بعينيْه الخاليتيْن من التَّعبير، ومجبرًا أشاحَ بوجهه.

- "فكَّرتُ أنها الآن لن تعرف بعلاقتي بشقيقتها".

مزق الشَّيطان حياته قطعةً قطعةً، لحظةً شنيعةً لحظةً شنيعةً، ودامَ هذا مئة عام، وربَّما ألفًا، فهنا في الغُرفة الرَّماديَّة عندهما الزَّمن كلُّه، وقُرب النِّهاية أدركَ أن الشَّيطان على حق: العذاب الجسديُّ أهون.

ثم انتهى العذاب.

وما إن انتهى حتى بدأ من جديد، وهذه المرَّة صارَ على علمٍ بذاته لم يُدرِكه في المرَّة الأولى، وبشكلٍ ما زادَ هذا كلَّ شيءٍ سوءًا.

والآن إذ تكلَّم كرهَ نفسه. لا أكاذيب أو مراوغات، لا متَّسع لشيءٍ غير الألم والغضب.

تكلَّم ولم يَعُد يبكي، وعندما فرغَ بعد ألف عامٍ تمنَّى أن يعود الشَّيطان إلى الجدار ليأتي بسكِّين السَّلخ أو الخنَّاقة أو البراغي.

قال الشَّيطان: "مرَّة أخرى".

انفجرَ يَصرُخ، وطويلًا صرخَ.

- "مرَّة أخرى". قالها الشَّيطان لمَّا انتهى صريخه، كأن شيئًا لم يُقَل.

الأمر أشبه بتقشير بصلة. هذه المرَّة حين استرجعَ حياته تعلَّم معنى العواقب، علمَ نتائج أشياء فعلَها وكان معميًّا وهو يفعلها، عن الطَّرائق التي آذى بها العالم، عن الضَّرر الذي سبَّبه لأناسٍ لم يعرفهم قَطُّ أو يُقابِلهم أو يُصادِفهم، وهذا أصعب الدُّروس.

بعد ألف عامٍ أخرى قال الشَّيطان: "مرَّة أخرى".

أقعى على الأرض بجوار المستوقد، يتأرجَح برفقٍ مغلق العينيْن ويحكي قصَّة حياته، يحياها من جديدٍ وهو يحكيها، من ميلاده إلى مماته، لا يُغيِّر شيئًا أو يُهمِل شيئًا، يُواجِه كلَّ شيء. لقد فتحَ قلبه.

ولمَّا فرغَ ظلَّ جالسًا في مكانه بعينيْن مغلقتيْن منتظرًا أن يأمره الصَّوت بالبدء مرَّةً أخرى. لكن شيئًا لم يُقَل.

فتحَ عينيْه، وبُبطءٍ نهضَ. إنه وحده.

عند طرف الغُرفة القصيِّ باب، وفيما شاهدَه انفتحَ.

من الباب دخلَ رجلٌ على وجهه رُعب، وغطرسة، وكبرياء. ثم تقدَّم الرَّجل الذي يرتدي ملابس ثمينةً عدَّة خُطواتٍ متردِّدة داخل الغُرفة.

وعندما رأى الرَّجل فهمَ.

وقال للوافد الجديد: "الزَّمن مائعٌ هنا".