15-مايو-2021

73 عامًا: فلسطين ثورة.. فلسطين ربيع

إنها الثالثة فجرًا وما زال مستيقظًا. يتجول في المطبخ، يعود إلى الصالون. ينظر إلى التلفزيون. يحمل الهاتف، يعيد الهاتف إلى مكانه. يجلس على الشرفة، يقف خلف الزجاج، ينظر إلى الأمام، إلى تحت، يحك صدغه بقسوة. يمشي نحو الكوريدور، يتجول في المطبخ، يعود إلى الصالون، وهكذا منذ البداية. يتلقى اتصالًا هامًا، يتجهم، يصرخ في الهاتف، يهدأ قليلًا. يضع الهاتف في مكانه على الطاولة، ثم يرنّ الهاتف مجددًا. يبدأ الزعيق فورًا هذه المرة. يسأل أين بالضبط، وكيف حدث ذلك، وإن كان سيتكرر.

يريد نتنياهو أن يبقى في منصبه، أن يتابع ما بدأه أسلافه، وما بدأه هو شخصيًا. هناك عدد كبير من البيوت التي لم يستول عليها بعد، هناك إبادة لم تكتمل

بالكاد يلتقط أنفاسه، ويمسح وجهه بيده كي يتأكد أنه ما زال في مكانه، وأن وجهه بالتحديد لم يسقط على الأرض بعد. يفهم أنه لم يعد يمكنه الاختباء، وأنه يجب أن يخرج. لأول مرة، لا يرغب بالخروج، لا يرغب بالتحدث إلى أي أحد. يحاول مرة أخيرة أن يتصل، متأملًا أن يأتي صوت من بعيد، عبر الهاتف، ويخبره بأن كل شيء عاد إلى طبيعته، وأنه يمكنه الذهاب إلى النوم. يعاود الزعيق، ويعترف أنه فقد صوابه، لكنه لا يعترف بالتداعيات. يقرر النزول إلى الأرض.

 

يضع ربطة العنق الزرقاء في مكانها، ويشدها إلى الجهة اليمنى، ثم ينتبه إلى ضرورة اعادتها إلى الوسط قليلًا، فيفعل ذلك. بعد أربع أو خمس محاولات، يعتقد أنه نجح أخيرًا في ارتداء ربطة العنق لوحده، من دون مساعدة من أحد. لن يضع مساحيق التجميل على وجهه، لأنه تجعله يبدو أصغر، ولأنه يحتاج أن يكون حكيمًا الآن. يجب أن يحترم نفسه لمرة واحدة على الأقل، وأن يتوقف عن الهذيان. ويمكننا هنا الافتراض، بأن المرافقين، في مثل هذا الوقت بالذات، سيكونون قد وصلوا إلى الباب، وهم ينظرون يمينًا ويسارًا، مثل البهلوانات، إلا أنهم سيكونون عابسين، ربما للضيق الذي تسببه سماعات الأذن، وربما لأن مهمتهم في النهاية بلا أي فائدة. هذا المجنون، الذي يحاولون حراسته بأسنانهم، سيموت هو الآخر، واحتمالات موته كثيرة. كل ما يفعلونه هو أنهم يجعلون من حمايته سببًا لمعيشتهم، لأنهم ببساطة لم يسألوا أنفسهم سؤالًا سهلًا: ما الذي نفعله هنا؟

يخرج من الباب. يمشون خلفه باتجاه موكب السيارات، الذي ينطلق سريعًا، ولا يتوقف في أي محطة من المحطات، حيث تحترق الإطارات والطرقات. على الطريق يتلقى اتصالًا، اتصالين، عشرات الاتصالات. في واحد منها يشعر بالتأنيب، لكنه طالما كان عاقًا، فيتأفف. جميع الاتصالات الأخرى حاولت تهدئته. ليس وحده، المستعمِرون مجانين جميعهم بشكلٍ عام. لا يكترث، يريد أن يبقى في منصبه، أن يتابع ما بدأه أسلافه، وما بدأه هو شخصيًا. هناك عدد كبير من البيوت التي لم يستول عليها بعد، هناك إبادة لم تكتمل، ويجب أن يحاول.

في لحظة الوصول، يتوقف عن التفكير ببلاهة، ويحاول أن يكون ذكيًا. يكتشف نفسه مجددًا، كرجل تجاوز الستين، بل السبعين، في عالم هرمي، وأنه يملك سُلطة يعتقد أنها واسعة، على كل شيء يدور حوله. سُلطة أجيال كاملة، تمرّنت على الاستعمار وعلى الاحتلال وعلى الاستيطان. يعتقد أنه يملكها لوحده، أو بمشاركة مع آخرين، يجلسون في الغرفة التي يتجه إليه، لكي يمثلوا مجموعة مصالح. لكنه يعرف أنه صاحب القرار في النهاية. يسمّونه الكابينت.

في الاجتماع لا يقررون كم طفلًا بالضبط يجب أن يُقتل في غزة، لكنهم يتفقون على أنه لا مانع من قتل الأطفال والكبار وجميع الكائنات الحية والجامدة. يوزع الحاضرون المهام على بعضهم. الجيش سيصوّب الصواريخ الدقيقة إلى غرف نوم الأطفال بواسطة سلاح الجو، الشرطة ستعتقل الفلسطينيين من بيوتهم في القدس، والسياسيون سيخرجون للتفجع. مهمته ليست سهلة على أي حال، وقد صار تمثيله مبتذلًا، وهو يعرف ذلك. سيحاول التعويض عن الخيبات بقتل المزيد من الأطفال العرب. يهم لمغادرة الاجتماع، فيلمع فلاش الكاميرا في وجهه، فيضيئ: شيء يشبه الفوسفور الأبيض.

ليس فقط القنابل، بل وجهه هو أيضًا، لا يمكن النظر إليه، ولا يمكن تحمله، مثل الفوسفور الأبيض تمامًا. يجب أن يفكك إلى أجزاء، وأن يتحلل، قبل أن يتحول إلى ما هو عليه، مصاص دماء أبيض. يفكّر بالقبة الحديدية التي تحولت إلى "حفاض"، بالمستوطنين الذين جاؤوا من أوكرانيا وهربوا من بيوت احتلوها في اللد، يفكّر بالمدعو دونالد ترامب، وبأصدقائه الذين طبّعوا العلاقات معه واختبأوا في الحمّامات عند أول رشقة صواريخ. صحيح أنهم يواسونه، ويقفون إلى جانبه، لكن شعوبهم ليست معهم. حتى جو بايدن ليس معه تمامًا وإن كان يتستر على جرائمه. يفكّر في أن يقلب الطاولة على الجميع، وأن يضاعف درجة الاعتداءات على الفلسطينيين: سأقتلكم، سأقضي عليكم، يهذي، يشعر بالدوران.

في الاجتماع لا يقررون كم طفلًا بالضبط يجب أن يُقتل في غزة، لكنهم يتفقون على أنه لا مانع من قتل الأطفال والكبار وجميع الكائنات الحية والجامدة

يعود بنيامين نتنياهو إلى البيت آخر الفجر، بعد زيارة خاطفة لمنطقة الرملة (أو أي منطقة فلسطينية أخرى) يعاين فيها هرب المستوطنين وبقاء السكان الأصليين. يرتعب من الفكرة، يكاد يرتجف من فكرة تلمع في رأسه مثلما تلمع الصواريخ فوق سماء يافا: سيبقى أصحاب الأرض عندما يغادر الجميع. يسأل نفسه هل سيعود هو الآخر إلى أوروبا الشرقية؟ هل سيرغم هو أيضًا على إعادة البيت، الذي كان يتجول في مطبخه قبل ساعتين، إلى أصحابه الأصليين؟ يبحث عن نافذة، عن ثقب في أي مكان، في الجدر، في المشهد، في رأسه، شيء يمكنه أن يطلّ برأسه منه، ليعلن انتصارًا صغيرًا. ليخرج من كل هذا. انقلبت المعادلة، وصار مضطرًا للقبول بانتصارات صغيرة أو مخارج، بينما بدأ أعداؤه الفلسطينيون يبحثون عن انتصارات أكبر بكثير: العودة، الحرية والتحرير. يصل إلى الباب، يدخل مباشرةً إلى المطبخ، يعود إلى الصالون، ينزع ربطة العنق ويجلس. الكابوس متواصل، تدّوي صفارات الإنذار، ويكاد أن يختنق.