13-فبراير-2022

الروائية دولثي تشاكون

تفتتح دولثي تشاكون روايتها "الصوت النائم" (الدار الأهلية، عمّان 2021، ترجمة تقوى مساعدة) بإخبارك بأن هناك امرأة ستموت. يبدو هذا حرقًا مبكرًا للأحداث، لكنك فيما بعد سترى أن الكاتبة تفعل ذلك في مواضع أخرى خلال الرواية، فتخبرك بأن طفلة ما لن تموت، أو أن زوجًا لن يرى زوجته مرة أخرى، لكنك كلما قرأت أكثر عرفت أن هذه قصة لا يمكن حرق أحداثها، لأن أحداثها معروفة أصلًا. ربما لم يكن اسم المرأة التي ستموت "أورتنسيا" كما تخبرك أول جملة في الرواية، لكن هناك امرأة ماتت بالفعل بعد أن وضعت مولودها الذي كان سجانوها ينتظرون ولادته كي يعدموها رميًا بالرصاص. ومع أنك تعرف أن المرأة ستموت، إلا أنه يبقى لديك أمل بأن شيئًا ما سيحدث لينقذها من الموت في اللحظة الأخيرة، لكن الموت قد وقع، والتاريخ قد كُتب، وأنت الآن تقرأ لا لتعرف إن كانت المرأة ستموت أم لا، بل لأن كل شيء يحيط بموت تلك المرأة يشدك كي تمضي معها حتى النهاية.

وُلدت دولثي تشاكون لعائلة أرستقراطية تنتمي لليمين المحافظ، وكان بوسعها أن تكتفي بسماع قصة الحرب من طرف واحد، وتلتزم الصمت كما التزمه آلاف الإسبان بعد الحرب

وُلدت دولثي تشاكون لعائلة إسبانية أرستقراطية تنتمي لليمين المحافظ، حيث كان بوسعها أن تكتفي بسماع قصة الحرب من طرف واحد، وتلتزم الصمت كما التزمه آلاف الإسبان بعد الحرب في محاولة للنسيان وعدم نكء جراح الماضي بعد انتهاء عهد فرانكو ودخول إسبانيا المرحلة الانتقالية نحو الديمقراطية، التي انتهت بتحول البلاد إلى ملكية دستورية. لكنّ الوقت لا يشفي الجراح بالضرورة، والصمت لا يعني النسيان، والرواية التي سمعتها تشاكون لم تكن كافية لها، فمضت في رحلة مدتها أربع سنوات جمعت فيها شهادات أشخاص عايشوا الحرب الأهلية الإسبانية وعانوا ويلاتها، لتوقظ الأصوات النائمة الراقدة كجمر تحت الرماد.

اقرأ/ي أيضًا: "موكب الظلال".. أصداء الحرب الأهلية الإسبانية

ومن تلك الشهادات والقصص حاكت تشاكون نسيجها السردي الذي يتداخل فيه الواقع بالخيال، فلا تعرف أين يبدأ واحد وينتهي الآخر. إنها تمزج تلك الروايات لتشكّل منها قصة جديدة تقدّم الأحداث الحقيقية نفسها في قالب روائي -إعادة تشكيل للواقع لا تنتقص من حقيقته شيئًا، الأمر الذي يبدو جليًا في نهاية الكتاب حيث تذكر الكاتبة في معرض الشكر والعرفان أسماء وإشارات إلى الأشخاص الذين شاركوها قصصهم، فقد تختلف الأسماء وتختلط القصص، لكن تبقى حقيقة واحدة وهي أنّ هناك شعبًا تعرّض لأبشع أنواع التعذيب والتنكيل والظلم لمجرد أنه ارتكب فعل المقاومة.

تبدأ أحداث الرواية عام 1939 بعد هزيمة الجمهوريين في الحرب الأهلية وصعود القوميين بقيادة فرانكو إلى السلطة. يعتبر كثيرون أن سنوات الحرب الثلاثة أكثر المراحل بشاعة ودموية في تاريخ إسبانيا الحديثة، لكنّ الحرب لم تنته بانتصار القوميين وهزيمة الجمهوريين، بل استمرت على شكل تصفيات ميدانية وإعدامات جماعية ومحاكمات صورية في عهد الجنرال فرانكو الذي عزم على الانتقام من المهزومين ومعاقبتهم على "التمرد"، رغم أن القوميين هم من انقلبوا على الجمهورية الثانية في الأساس.

الشخصية المحورية في الرواية هي "بيبيتا"، شابة بعيدة عن السياسة، وتكرر في أكثر من موضع أنها لا تريد سوى العيش بسلام، ولا تريد أن تكون جزءًا من المقاومة، لكنها ورغمًا عن كل تحفظاتها تصبح حلقة الوصل بين المقاومين والعالم، في إشارة إلى استحالة الحياد في الصراعات الإنسانية الكبرى. بيبيتا -التي يُقتل أبوها لتعاونه مع الجمهوريين وتُعدم أختها بتهمة الانضمام إلى فصيل متمرد ويُسجن حبيبها 17 عامًا- تحاول قدر الإمكان أن تنأى بنفسها عن السياسة، لكنها تجد نفسها في النهاية جزءًا من تنظيم نسائي حزبي يوصل الرسائل بين المقاومين داخل السجن وخارجه ويعينهم بالمال والمؤن.

تلعب النساء دور البطولة في الرواية، حيث تدور معظم أحداثها داخل سجن "لاس بينتاس"، وكل القصص والشخصيات الأخرى خارج السجن ترتبط بهؤلاء السجينات، في إعادة إحياء للدور الذي لعبته النساء خلال الحرب الإسبانية ومرحلة ما بعد الحرب -إذا صحّت تسميتها بذلك. ولا يقتصر الأمر على النساء اللاتي شاركن في المقاومة المسلحة أو تعرضنَ للتعذيب بشكل مباشر، إذ تذكر تشاكون مثلًا روايات النساء اللاتي كنّ يختبئن في المقبرة -حيث تتم عمليات الإعدام- ليتمكنّ من إغلاق أجفان الموتى وأخذ قطع من ثيابهم ليتعرف إليهم أهاليهم المنتظرون في الخارج، وتذكر أيضًا قصة امرأة سجينة انهارت بالبكاء حين أدركت قرب نهاية مدة سجنها أنها دخلت سن اليأس ولن تصبح أمّا أبدًا. الأمومة حاضرة بقوّة في الرواية، لكنا في الغالب مرتبطة بالفجيعة، فجيعة فقد الأبناء أو موت الأمهات، مما يضيف إلى الثمن الباهظ الذي دفعته النساء خلال الحرب.

رواية "الصوت النائم" إحياء لذكرى ضحايا الحرب الذين فقدوا حياتهم، ومواساة لأولئك الذين عاشوا مع الويلات وتحملوا خساراتهم بصمت

وكما في كل حرب أو صراع تسمع أصواتًا تلوم الطرفين. وسترى في الرواية إشارات إلى ذلك، حيث تورد على لسان الشخصيات بعض الأخطاء التي ارتكبتها القيادات السياسية للجمهوريين، كما تدين خيانة حلفاء الجمهورية من الدول الديمقراطية وتخليهم عن المقاومة، إلا أنّها لا توزع اللوم مناصفة ولا تساوي بين الظالم والمظلوم على طريقة "كلنا مذنبون، كلنا ضحايا". كلنا مذنبون، ربما، لكن هناك مجرمين وهناك ضحايا.

اقرأ/ي أيضًا: كارمن لافوريت: سأبقى وحيدة!

ربما يلقي هذا الضوء على الإصرار الشديد من بعض الإسبان على دفن ذكريات الحرب الأهلية بحجة عدم نكء جراح الماضي، لدرجة أنه حين تمت إزالة تماثيل فرانكو من الساحات في إسبانيا عام 2005 أثار ذلك احتجاجات غاضبة بحجة أن ذلك سيعيد فتح جراح قديمة. لكن إن كان الناس في إسبانيا ما زالوا حين يختلفون يتراشقون الاتهامات فيما بينهم بالفاشية -إشارة إلى أنصار القوميين- أو ينعت بعضهم الآخرين بـ"الحُمر" -إشارة إلى أنصار الجمهورية- فهل يمكن القول إن تلك الجراح التأمت حقًا؟ وهل يتساوى أحفاد القتلة بأحفاد المقتولين في حق النسيان؟

"الصوت النائم" إحياء لذكرى ضحايا الحرب الذين فقدوا حياتهم، ومواساة لأولئك الذين عاشوا مع ويلات الحرب وتحملوا خساراتهم بصمت، إما خوفًا من التعرض للمزيد من الويلات أو أملًا في مستقبل تصبح الحرب فيه ذكرى بعيدة منسية. إنه تكريم لأولئك الذين حملوا عبء الحرب حتى بعد انتهائها، ومحاولة حقيقية للتصالح مع الماضي، وربما نسيانه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بيثنتي اليكساندري.. الناجي في ذكرى رحيله

عوالم خوان خوسيه ميّاس.. بواطن اللاوعي والسرد