28-أكتوبر-2019

أعاد نقل رفات فرانكو الاستقطاب السياسي في إسبانيا (أ.ف.ب)

قبل أيام، باتت العاصمة الإسبانية مدريد، وللمرة الأولى منذ 44 سنة، خالية الحضن من جسد ديكتاتورها، أو ما تبقى منه. فرانشيسكو فرانكو الذي نقلت رفاته، وأخيرًا، من ضريحه الفخم بـ "وادي الشهداء" إلى مدافن عائلته البسيطة. منهية بذلك عهدًا من الوضع الاعتباري لهذه الشخصية التي هندست الحقبة الفاشية من تاريخ البلاد، مكرسة خيار الديمقراطية والمصالحة مع التاريخ.

رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز: تحويل رفاة فرانكو من "وادي الشهداء" هو نهاية إذلال أخلاقي تاريخي، وتمجيد دكتاتور في الفضاء العام

رفاة فرانكو ونقلها من مكانها الأول إلى مكان آخر مطلب ليس بالجديد، فمنذ سقوط الدكتاتورية بالبلاد وهي تعمل على محو وجود الرجل من حياتها اليومية، ودفن تراثه إلى الأبد، بإزالة كل تماثيله، وتغيير أسماء الشوارع والأماكن التي كانت لها صلة ونظامه البائد. حيث يأتي نقل الرفاة كفصل آخر من هذه العملية.

اقرأ/ي أيضًا: هل تعود روح الدكتاتور فرانكو الفاشية "المتدينة" إلى إسبانيا؟

عهد تمَّ الوفاء به

تحويل رفاة فرانكو من "وادي الشهداء" هو نهاية إذلال أخلاقي تاريخي، وتمجيد دكتاتور في الفضاء العام، صرح بيدرو سانشيز، رئيس الوزراء الإسباني، مضيفًا أن الأمر "خطوة أخرى في طريق اكتمال المصالحة وجبر ضرر حقبته الدموية". كان هذا أثناء ندوة صحفية أجراها يوم الخميس الماضي، 24 تشرين الأول/أكتوبر، بعيد عملية تحويل المدفن.

مدفن فرانكو الأول ناهيك عن كون جزء منه بني بسواعد أسرى الحرب الأهلية والمعتقلين السياسيين لإسبانيا الفرانكاوية، وأنه يأوي كذلك شهداء تلك الحقبة من ضحايا الجنيرال، كان محجًا للسياح خاصة اليمينيون أصحاب الحنين إلى حقبته، مما مثّل "إهانة للديموقراطية الإسبانية" يقول سانشيز، مسترلسلًا بأن ذات الديموقراطية التي "أخذت من إسبانيا وقتًا طويلًا لانتزاع حريتها من قبضة الديكتاتور، لزمها الأمر وقتًا أطول بعد ذلك لمحو أثره إلى الأبد. على رأس ذلك تحويل رفاته من مكان ذي اعتبار بالنسبة للشعب الإسباني".

وكان إجراء نقل رفاة فرانكو من "وادي الشهداء" على رأس البرنامج الانتخابي للحزب الاشتراكي الإسباني، الذي وفى به، بعد مخاض عسير للقضية في المحاكم الإسبانية استمر لـ 16 شهرًا. وبعد الحكم أخيرًا لصالح نقل الرفاة، من قبل المحكمة العليا الإسبانية، مخالفة كل طعون عائلة الجنرال.

 خالفت بالتالي عملية النقل تلك كل رغبات العائلة المذكورة من مظاهر تمجيد أو تبجيل طالبت وجودها، كما تم نقل الرفاة جوًا تفاديًا لأي احتجاجات أو تجمهر يميني من شأنه أن يعيد الاعتبار للدكتاتورية.

وداع أخير لفرانكو

لكن نقل الرفاة جوًا لم يمنع تجمهر بعض المئات من أنصاره، أمام مدفنه الجديد، أما الحضور أثناء العملية لم يكن مرخصًا سوى لعائلة فرانكو. هذا وندد المتجمهرون بعملية النقل تلك التي اعتبروها تدنيسًا لتراث الرجل، حاملين أعلامًا وشارات على حقبته، هاتفين "يحيا فرانكو!". فيما ظهر فرانسيس فرانكو، حفيد الديكتاتور، وهو يحاول تبديل علم إسبانيا على تابوت جده بعلم الحقبة الفرانكوية، رغم  منعه من قبل الحكومة. فرانسيس فرانكو الذي اعتبر نقل رفاة جده "بروباغندا تحاول بها الحكومة الاشتراكية جذب الأصوات للانتخابات التشريعية القادمة!".

ويذكر أن اليمين الإسباني داخل البرلمان لم يكن موافقًا على هذا الإجراء. فقد امتنع ألبير ريفيرا، وحزبه سيودادانوس، عن التصويت لصالح نقل الرفاة. متحججًا بأن ثلثي إسبانيا اليوم لم تعش تلك الحقبة، وأن "بقايا عظام الدكتاتور ليست أولوية الحكومة". نفس الموقف عبر عنه بابلو كسادو، رئيس حزب الشعب الإسباني، قائلًا: "صراحة أنا قلق بشأن مستقبل أولادي، لا بشأن ما وقع في الماضي".

الوحيد الذي عبر عن اعتراضه بصراحة كان سانتياغو الباسكال، زعيم حزب فوكس اليميني المتطرف، مغردًا على تويتر بأن "سانشيز قد تخطى حدوده بتدنيس رقاد الموتى من أجل حملته الانتخابية السابقة لأوانها"، معتبرا نقله لرفاة فرانكو "حملة كراهية ضد اليمين، وقلة احترام للموتى!". مرفقًا تغريدته بصور لمقاتلين جمهوريين إبان الحرب الأهلية، زاعمًا أنها صور تدنيس للمقابر.

كما عتب على كل من حزب الشعب وسيودادانوس صمتهم تجاه الإجراء، متهمًا إياهم بالمشاركة فيما أسماه "جريمة!". الجريمة التي بالنسبة لآلباسكال، كما صرح بذلك في لقاء تليفزيوني، "ليست فقط حفر قبر واستخراج رفاته"، بل نزع الشرعية عن الانتقال الديموقراطي، إسقاط الملك فيليب السادس، وإنزال الصليب عن وادي الشهداء.

فيما قاد مجهولون هجومًا على نصب تذكاري لمؤسس الحزب الاشتراكي، بابلو إغليسياس بوسي، اتضح من عملية التخريب أنهم تابعون لليمين المتطرف. حيث ألقيت صبغة حمراء على التمثال، وانتزعت حروفه، وحفرت عليه عبارات من قبيل "مدنس" و"يحيا فرانكو!".

إبعاد الرفاة.. ليس كافيًا!

على أقصى يسار المشهد السياسي الإسباني، والمقصود هنا حزب يونيداس بوديموس، اعتبر خطابه الرسمي أن تحويل الرفاة بالطريقة التي تم بها أمر غير كافٍ لطمر شبح فرانكو إلى الأبد. كما جاء على لسان زعيمه، بابلو إغليسياس، الذي علق عن عملية النقل بأنها كانت "جنازة ثانية للديكتاتور!"، واسمًا إياها بالأمر المخجل أن "نشاهد أفرادًا من الجيش يسبقون الرفاة أثناء نقلها".

أيام قبل موعد تحويل الرفاة، صرح إغليسياس أن "الديمقراطية في إسبانيا لا زالت محدودة". مشيرًا إلى أن الرفاة  "لا زالت في قبضة بقايا الأوليغارشية الفرانكوية في الحكم"، في حين كان من المفروض إيكال مهمة إخراج "موميائه" من قبرها إلى جمعية الذاكرة التاريخية، "لا الحكومة، ولا بيدرو سانشيز لأن في ذلك تكريمٌ له!".

اقرأ/ي أيضًا: من فرانكو إلى السيسي.. الدكتاتورية حظوظ!

وفي تغريدة تعود لخواكين أورياس، أستاذ القانون الدستوري بجامعة إشبيليا، أعاد زعيم بوديموس نشرها على حسابه. تقول: "اتضح أنهم (الحكومة) لم يفهموا بعد معنى كلمة مجزرة. لو أنهم فهموا ذلك لما كان هناك ورود ولا رايات على تابوث ذلك السفاح!. معلنًا في ختام تغريدته أن "نظام فرانكو لا زال قائمًا، وما حدث في عملية نقل رفاته دليل على ذلك".

قاد مجهولون هجومًا على نصب تذكاري لمؤسس الحزب الاشتراكي، بابلو إغليسياس بوسي، اتضح من عملية التخريب أنهم تابعون لليمين المتطرف

فيما اعتبرت الكاتبة والصحفية الإسبانية، أولغا رودريغيز، أن "الظهور الذي منح لفرانكو، بمرافقة عائلته، محمولًا على الأكتاف والورود على تابوته (مع أن الحكومة صرحت بمنعها ذلك)، والهتافات لحياته.. يتناقض والحجب الذي يطال الضحايا وعائلاتهم". مذكرة بأن نقله تم لمكان آخر، عمومي، وممول بأموال دافعي الضرائب. خالصة أنه مهما اعتبر الأمر خطوة جيدة وتم الاحتفاء بها. فإن ما ينقص هو المصالحة الشاملة وجبر الضرر الذي تعرض له الضحايا. حينها نكون قد أسسنا لثقافة حقوقية عالية في إسبانيا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل تشبه الحرب السورية..الحرب الأهلية الإسبانية؟

كارمن لافوريت: سأبقى وحيدة!