29-سبتمبر-2019

خوان خوسيه ميّاس (لاغواردينا)

يعتبر خوان خوسيه ميّاس 1946 أحد أهم الكتاب الإسبان المعاصرين وأكثرهم تأثيرًا في الكتابات الإبداعية المعاصرة، من روايات وقصص قصيرة وحتى على صعيد الكتابة الصحفية. ميّاس هو منقذ الرواية الإسبانية  من الوقوع في فخ الواقع كما يقال عنه، بعد أن غرقت السردية الإسبانية في تفاصيل الحرب الأهلية، وهو أهم من رسمت كتاباتهم ملامح واضحة للخيال الروائي من خلال وضعه في اختبارات جديدة أمام الواقع، وخلق فضاءات أخرى للسرد الروائي. 

ميّاس هو منقذ الرواية الإسبانية  من الوقوع في فخ الواقع كما يقال عنه، بعد أن غرقت السردية الإسبانية في تفاصيل الحرب الأهلية

يتعامل الكاتب مع الواقع كحدث غرائبي، وطارئ أيضًا، ينسج في سرده أسئلة تصيب بواطن فكر الإنسان المعاصر،تستهدف حقيقة ومعنى الوجود الإنساني، حول الهوية الإنسانية والهوية الخاصة، ينبش في عمق الذات ويدفعها لاختبار طرق جديدة في التعبير عن نفسها. كما تواجه الشخصية الروائية عند ميّاس أزمة معرفة الذات والتعبير عنها. لذلك ينشغل الكاتب برصد وتسجيل أزمات الإنسان بأسلوبية خاصة مبنية على أساس الحفر في العمق الإنساني وفي الوقائع الخاصة للبشر والوقائع الاستثنائية كالتفاصيل اليومية الصغيرة التي لا ننتبه لها والتي تبدو من شدة بساطتها غير ملفتة للنظر لكنها تشكل الواقع نفسه.

اقرأ/ي أيضًا: لبيدرو مايرال.. في مديح النقصان

كما تعتبر بعض الثيمات مثل الخوف والوحدة والعزلة ثيمات أساسية في عالم ميّاس الروائي، يبني عليها تصور شخصياته للعالم، كما أن تلك المواضيع هي مفجر الأسئلة الوجودية التي تواجهها الشخصيات وتشكل أيضًا دوافعها للتحرك نحو فضاءات جديدة تختبر فيها منطق جديد للعيش. 

 تعتبر بعض الثيمات مثل الخوف والوحدة والعزلة ثيمات أساسية في عالم ميّاس الروائي

 رفع ميّاس صوت الفرد المهمش الذي تسكنه المخاوف والاضطرابات، ووضعه أمام واقع شديد التعقيد، وطلب منه أن يجد تعريفه المناسب للصراع، لذلك تتوق شخصياته دومًا إلى التحرر، فالحياة الداخلية لها ناتجة عن فيض من التمازجات وسلسلة من الذكريات والإدراكات والرغبات التي تتدفق في حالة جريان مستمر.  

ماذا يحدث وراء العالم المرئي؟

لظل الشخصية حكاية في عالم ميّاس الروائي، يلعب على تشكيله ووضعه أمام العديد من الاحتمالات الواقعية منها وغير الواقعية. في روايته من الظل "الصادرة عن منشورات المتوسط 2018، ترجمة أحمد عبد اللطيف"، يحاول ميّاس أن يبني عالمًا مجاورًا للواقع في خزانة ملابس، يصل إليها البطل دميان لتصبح عالمه المخفي عن العالم الحقيقي، ولكن ما يحدث فيه يؤثر على العالم الأول بشكلٍ كبير. 

تعيش شخصيات ميّاس في المكان المخفي غير الاعتيادي، الغائب عن البصر صعب الملاحظة، وتتحرك من خلال مكانها الذي تترجمه أفكارها ومخاوفها ورؤيتها للعالم، نحو العالم الحقيقي، وتتحرك فيه بحذرٍ شديد، فهو عالم غير منطقي، مُسيس وصعب الفهم. لذلك يأخذ العالم غير المرئي مساحةً أكبر كفضاء بديل تجري فيه أحداث موازية للحياة الطبيعية ولكنها تتشكل على نحوٍ مؤثر بقدر كبير على شخصيات الرواية. 

اقرأ/ي أيضًا: المغنية الإسبانية ماريا دولوريس براديرا.. رحيل أسطورة

 

يلعب ميّاس في رواية من الظل على عدة مستويات للمكان بين ثنائية حقيقي/متخيل، ويخلق فضاءات أخرى للروي تذكرنا بالنص المسرحي المستأجر الجديد للكاتب الروماني الفرنسي يوجين يونسكو، عمومًا يتشارك الاثنان في الاشتغال على معاني الوحدة والعزلة في الحياة الحديثة. تشغل الشخصية في الرواية الفضاءات غير الملفتة للنظر، فيصبح مكان كالغرفة مكانًا حياديًا وداخل الخزانة هو فضاء اللعب والتجريب ومنه يحدث الطارئ والمتغير.  

تبدو عوالم رواياته وكأنها تسير في شوارع فرعية ملتفة قادرة على خلق الدهشة والمتعة من خلال التفاصيل الصغيرة وكل ما لا يلقي له الإنسان المنشغل بالحياة بالًا، ودون أن تثير تلك التفاصيل اهتمامه على الإطلاق، هذا هو الأمر أيضًا في رواية لاورا وخوليو ترجمة أحمد عبد اللطيف، التي تبدأ من خبرٍ يتلقاه الأبطال فيغير منطق العلاقة والصراع بينهما. 

أبطال الروايات عند ميّاس لا يقومون بالفعل بمقدار ما يخافون ويفكرون، إلاّ أنهم ينساقون مع المتغير وغالبًا ما يقومون بالتغيير بغية التعرف على حقيقتهم. 

الخيال أداة كاشفة للواقع 

تعيش شخصيات ميّاس انقلابها باستخدام غرض أو ذكرى أو دافع يأتيها من خلال نواقصها واحتياجاتها، ففي رواية أحمق وميت وابن حرام وغير مرئي  يُطرد البطل من وظيفته، ليجد نفسه أمام اختبارات عديدة تساعده على كشف حقيقته، فيبدأ شيئًا فشيئًا بالكشف والاكتشاف عبر سلسلة من الحوادث والمفارقات التي تصادفه. تعتمد الشخصية على شارب مستعار بغية التشبه بالأب المتوفي، هذه الرغبة بحد ذاتها تفتح المجال للبحث وتساعده على العبور من حالة لأخرى والدخول عبر عوالم عديدة للتعرف على الذات. يتحقق معنى العنوان عبر تراكم التجارب التي تكشف حقيقة البطل أمام نفسه، وكأنها طريقة تراكمية يقرر الدخول إليها عبر أقنعة وأغراض تساعده على لعب شخصيات وتشكيل مرايا لشخصية أساسية تعكس له الحقيقة. 

صراع إيلينا، الشخصية الرئيسية في روايته هكذا كانت الوحدة، "ترجمة ناريمان الشاملي، من إصدارات سلسلة الجوائز في الهيئة المصرية العامة للكتاب" هو الوقوف أمام نفسها ومواجهة حقيقتها، عبر الوحدة التي تعيش فيها. لنجد أنها مثل شخصيات أخرى مطرودة من العالم ومقصيّة، عليها مواجهة هواجس وأفكار العزلة. 

بينما في رواية من الظل، يلعب المكان الاستثنائي الذي تخلقه الشخصية لنفسها دورًا في قلب حياتها الاعتيادية وحياة الآخرين، عبر العبور أيضًا إلى عوالم أخرى، وإحداث التغيير.  في رواية لا ورا وخوليو نحن أمام تفصيل أكثر واقعية ولكنه لا يقل تعقيدًا، حيث يتعرف خوليو على حقيقة حياته الراكدة بعد أن يعيش في شقة جاره. عن هذا التشابه يكتب ميّاس، وبه ينشغل في بحثه عن حقيقة الشخصية الإنسانية الحديثة في توهانها وإحساسها بالوحدة وكرهها للبشر.

تتحول الرواية مع خوان خوسيه ميّاس إلى رحلة اكتشاف عوالم جديدة في لا وعي الإنسان، تساعده على فهم واقعه ومواجهته

لنجد أنه يتصدى من خلال الشكل لأسئلة جمالية أدبية، تشغل حيزًا كبيرًا من رؤيته للرواية ومهمتها وكذلك الكيفية التي نعبر بها عن الإنسان المعاصر وأزماته، باحثًا في تفاصيل النفس البشرية وكل ما تخشى أن تقوله وتفعله. وذلك لم يتم عبر الابتعاد عن نقل تفاصيل الواقع فقط وتحييد المنطق،  وإنما نتيجة الانشغال بسؤال الأدب ومعنى أن نكتب أدبًا ونبقيه بعيدًا عن خطر التعلق بالواقع والانغلاق فيه عبر التورط بالكتابة عن العام سريع الزوال. 

محاولة أنسنة الأشياء 

في كتاب القصص القصيرة  الأشياء تنادينا المُترجم من قبل أحمد عبد اللطيف أيضًا، والصادر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، يقدم ميّاس مجموعة قصص قصيرة عن العلاقة مع الأشياء المحسوسة بهدف إعادة صياغة علاقات جديدة مع العالم المحيط بالإنسان،  يذهب ميّاس في رصد هذه العلاقة من خلال مذكراته التي يحتويها الكتاب والتي تتمثل في علاقة أفراد الأسرة مع بعضهم وعلاقتهم مع تلك المحسوسات. فتصبح لدينا حكايات ذات عمق إنساني وشكل أدبي عن أشياء تنادينا وليس لها وجود، وكيف نتفاعل مع حضورها الجامد والفعال في ذات الوقت. 

يعمل ميّاس على تزويد الماديّات بالمنطق والإحساس، يبث الحياة في المكان والأشياء، يلقي جملة من المشاعر على الأغراض ويجعل الذكريات تتنفس وتأتي على هيئة أشخاص. يد أب مبتورة، مانيكان تتعرق، هاتف محمول لأم ميتة، مكالمة هاتفية لم تأتي. وهكذا يبتكر روح للجمادات تترجم علاقة متخيل\واقعي في سرده للقصص. 

لهذه الثنائية شأن كبير في عالم ميّاس الروائي، وعليها تقوم فرادة القص والسرد، حيث يبني عوالم سرده على كل ما هو متخيل  وغير مرئي، من خلال إعادة هيكلية وبث الروح في أمكنة مظلمة وأخرى لم يكن من السهل التفكير فيها، وغالبًا ما تعيش بعض الشخصيات في داخلها الشخصيّ، فينعكس الخاص على العام ويلونه، ويصبح العالم الداخلي للشخصيات هو دافع ومحرك نحو الفعل، ويدخل ذلك في بناء عالم الرواية وخط سير الأحداث. 

 يُشرع مياس أبواب الخيال أمام كل ما لا يمكن أن نعتقد بحدوثه

يقدم ميّاس قصص واقعية بأسلوب غير واقعي، يُشرع أبواب الخيال أمام كل ما لا يمكن أن نعتقد بحدوثه، تذهب مخيلته إلى أكثر المناطق ظلمة في الوعي وتحركها نحو فضاءات جديدة ممكنة. لا يمكن للقارئ أن لا يشعر بالفضول اتجاه فرضياته المتخيلة، التي تتطرق لعالم القرين والجار والنصف الآخر المقابل للإنسان، صورة الأب، الأخ، وكل ما يمكن أن يعكس صورة الذات. ترى شخصيات ميّاس نفسها بمرايا متعددة ومختلفة، يصنع لها جدارانًا قابلة للاختراق الحسيّ، تفتح على عوالم نفسية غير منتهية، تستطيع من خلالها تخيل وتوقع حدوث كل ما هو غير واقعي وغير منطقي في الواقع. يدخل القارئ إلى كل تلك السراديب النفسية التي تدفعه للتفكير بنفسه بطريقة مختلفة، من خلال التطرق إلى عوالم غرائبية وخلق إيهام جديد مع القارئ يقوم بشكل أساسي على اتفاق ضمني بين الكاتب والقارئ مفاده أن علينا تخيل كل ما هو صعب الحدوث والتوقع في الحياة العادية، لتتحول الرواية مع خوان خوسييه ميّاس إلى رحلة اكتشاف عوالم جديدة في لا وعي الإنسان، تساعده على فهم واقعه ومواجهته. 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

5 روايات عالمية لعطلة نهاية الأسبوع

الهيمنة.. قصة بحث عن فؤاد غبريال نفاع