02-مايو-2021

كاريكاتير لـ بريدراغ سربليانين/ صربيا

يتفاخر كبار السن بأنهم كانوا ينضجون بسرعة أكبر، وأن زمنهم كان متميزًا وهم كانوا مثله متميزين. وليسوا كسالى وعديمي الإحساس بالمسؤولية مثل الجيل الجديد.

يصبحون رجالًا أشدّاء وقادرين على تحمّل المسؤولية كاملة في سن الرابعة عشر أو الخامسة عشر، بل ويتزوجون ويؤسسون عائلات ويبدأون بالعمل، ولذلك يعيبون على الجيل الجديد تأخر مرحلة النضج حتى نهاية العشرينيات من عمرهم.

تعقدّت الحياة، وتسارع التطور، وانفجرت كتلة العلوم والمعارف، وبات الطفل البشري بحاجة لاستقبال واستقلاب كمية هائلة من المعلومات كي يواكب ما يجري حوله

ويضرب بعضهم أمثلة عن ملوك اعتلوا عروشهم في السابعة عشر، وقادة حققوا انتصارات حربية في الثامنة عشر، ونساء أنجبن ستة أبناء قبل بلوغهن العشرين، وتحولت بعضهن إلى جدّات في السابعة والعشرين.

اقرأ/ي أيضًا: حارس الموتى

بالطبع، لا يمتلك الجيل القديم قدرات خارقة، وليس الجيل الجديد رخوًا وضعيفًا وبطيء التعلم، لكن القصة تتعلق بحجم المعرفة التي على الفرد الناشئ أن يتعلمها كي يواكب متطلبات الحياة والانخراط في العمل.

قبل قرن ونصف من الزمان كان بإمكان فتى أن يصبح فردًا كاملًا من النوع البشري في الثالثة عشرة، فحجم المعرفة والمهارات التي يحتاجها محدود للغاية: كيف يربط وعاءً جلديًا بحبل ويدليه في البئر ليخرج الماء، كيف يصيد أرنبًا بسهم، ويعيد شاةً شاردة إلى القطيع، يسرج حصانًا، ويحصد قمحًا أو يقطف بلحًا. كيف يؤدي صلاته، وكيف يدفن موتاه، يعرف من أين يأتي الأطفال، ومن أين يمكن شراء سيف وآنية فخارية.

وكما يحتاج الحَمَل لأربعة أشهر كي يصبح خروفًا ناضجًا وعضوًا كاملًا في مجتمع الأغنام، كانت ثلاثة أو أربعة عشر عامًا كافية تمامًا للفتى ليصبح عضوًا كاملًا في مجتمع البشر، ويصير ندًا لمن يفوقونه في السن بنصف قرن، يعرف ما يعرفون، يفعل ما يفعلون.

تعقدّت الحياة، وتسارع التطور، وانفجرت كتلة العلوم والمعارف، وبات الطفل البشري بحاجة لاستقبال واستقلاب كمية هائلة من المعلومات كي يواكب ما يجري حوله، ويشعر بالانتماء لنوعه وعصره. يزوده التعليم بمفاتيح تلقي المعرفة لا بالمعرفة كلها، ولا فرق في ذلك بين التعليم الأساسي والتعليم الجامعي وما بعد الجامعي. فما من منظومة تعليمية في العالم قادرة على مواكبة سرعة ما يجري من تطور في العلوم والاكتشافات والاختراعات، ومن أحداث في شؤون الدنيا المختلفة.

ومع التبرعم المفرط للاختصاصات المهنية والعلمية، وتشعبها وتداخلها، بات على أي صاحب مهنة مهما كانت، كي يحقق الحد المعقول من النجاح أن يبقى بحالة تيقّظ دائم، ومتابعة حثيثة لما يجري في مهنته والمهن المجاورة لها.

صار الإنسان بحاجة لمعرفة الكثير، يحتاج تقريبًا ألف ضعف ما عرفه جدّ أبيه الذي مات بسلام بعد أن أدّى واجبه كاملًا تجاه نفسه وأبنائه ودينه ودنياه

فعلى طبيب القلب أن يقرأ كل يوم تجارب زملائه في كل أنحاء العالم، ولم يعد يكفيه قراءة مخطوط لابن نفيس كي تناديه القبيلة بلقب الحكيم، هو بحاجة الآن لمواكبة ما يخترعه علماء الهندسة الطبية، ومتابعة التحديثات على أجهزة القثطرة وبوالين توسيع الأوعية الدموية. ومثله تمامًا يحتاج النجار لرؤية تصاميم الطاولات، وهو كذلك سيتخلّف ويخرج من السوق إن لم يتابع ما يخترعه الميكانيكيون وشركات التعدين من إكسسوارات، وما يبتكره مصممو الهندسة الفراغية من أذرع تحريك تسمح لأبواب الخزائن بالحركة المرنة لـ 270 درجة، بما يتناسب مع بيوت مساحتها ستة وأربعون مترًا ويعيش فيها أربعة أفراد حياة عصرية.

اقرأ/ي أيضًا: حاملو مفتاح النبيذ

في كل مهنة، وفي كل شغف، بتنا اليوم بحاجة لمعرفة كم هائل من المعلومات، ليس في اختصاصاتنا فقط، بل في الاختصاصات المجاورة، وفي الشؤون العامة. فكيف يمكن لطبيب قلب أو لنجار أو لمبرمج تطبيقات أن لا يعرف من الفائز بكأس العالم، أو من اختار ريال مدريد ليكون قلب الهجوم في الموسم الجديد، وما سر استمرار زواج توم هانكس، ومن حصل على الأوسكار ونوبل الآداب، وما الذي يميز هذا الأخير عن كل كتّاب العالم.

في معظم أنحاء العالم لم يعد اليافع البشري بحاجة ليُنزل دلوًا في بئر ولا ليصطاد أرنبًا في البرية، لكنّه صار بحاجة لمعرفة الكثير، يحتاج تقريبًا ألف ضعف ما عرفه جدّ أبيه الذي مات بسلام بعد أن أدّى واجبه كاملًا تجاه نفسه وأبنائه ودينه ودنياه.

الخبر الجيد لهذا اليافع أن وسائل الحصول على هذه المعرفة صارت سهلة للغاية، وكثير منها يحتاج فقط لتحريك عينيه، وتشغيل عقله، وربما حركة بسيطة على الشاشة من إصبعه بين الفينة والفينة، هي متوفرة ومتاحة وتنتظر منه أن يتلقاها، موجودة على جميع الشاشات التي تحيط به وفي الرفوف التي تجاور يده. يحتاج أن يعرف الكثير، أن يستخدم ما هو متاح له من مصادر للحد الأقصى. وبذلك سيصبح فردًا كاملًا من النوع البشري.  

صحيح أننا لسنا بذلك النوع الذي يستحق بذل كل هذا الجهد، وصحيح أن سجلات تاريخنا في القرون الخمسين الأخيرة لا تنطوي على أداء يثير الإعجاب، ولا تجعل الانتماء لنا مدعاة للفخر، خصوصًا أننا لم نتوقف خلالها عن قتل بعضنا، وتدمير كوكبنا.

لكن علينا أن نستمر بالسير إلى الأمام، وعلى الأجيال الجديدة أن تحدث نقلاتها الخاصة في ذلك المسار، فلعلنا نصل ليوم، تقف فيه البشرية. تنظر إلى الخلف، وتقول: أجل كانت الرحلة تستحق.

 

اقرأ/ي أيضًا:

العودة إلى اللغة الأيقونية

عن الفنون في زمن ناطحات السّحاب