10-مايو-2024
جانب من الدمار الذي خلّفه القصف على مدينة خان يونس

(Getty) مشهد من دمار غزة

لقد تجاوزت الحرب العدوانية الإسرائيلية على قطاع غزّة شهرها السادس، وتجاوز عدد الشهداء الخمسة وثلاثين ألفًا، وعشرات آلاف الجرحى، ومئات آلاف المهجّرين، وعشرات آلاف المنازل المهدّمة.

تبدو هذه المعلومات هكذا معهودة، وقد تعوّدناها مع اختلاف الأرقام والتواريخ؛ وأيضًا تمكّن المقاتلون الفلسطينيون من إيقاع العديد من جنود العدو بين قتيل وجريح في عمليات بطوليّة، لم يمرّ يوم دون أن يكون ما يحدث حربًا حقيقية رغم تفاوت القدرات بين الطرفين، فهم يقتلون ويُهجّرون ويهدمون والفلسطينيون يردّون، دعنا من وسائل الإعلام وتضخيمها أو تقليلها للأرقام تبعًا لتابعيّتها ومصلحتها، المهمّ هو أنّ الإسرائيليين ليسوا في نزهة في قطاع غزّة، وما يفعلونه لا يمرّ دون عواقب أوّلها العمليات الفلسطينية ضدّ قواتها بل القصف الصاروخي من مناطق شمال القطاع التي أعلنتها إسرائيل "ممشّطة" وخالية من المقاتلين. من أين يخرج هؤلاء الذين يقومون بهذه الهجمات؟

هناك مجال للكثير من التفسيرات والشروح، أنفاق، مناطق سريّة بين الأبنية المهدّمة، يعودون سرًّا من مناطق أخرى، ولكن في جميع الأحوال مقاومة الفلسطينيين للمشروع الإسرائيليّ مستمرّة، وتأكيد وجودهم واستمرارهم أمام حملة الإبادة واضح بشكل يوميّ. هذا الصمود الكبير للمقاتلين الفلسطينيين له ثمن يوميّ يدفعه أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، فهم مشرّدون أغلبهم ينام في العراء مع أطفالهم، ولا يكادون يحصلون على قوت يومهم، ثمّ العناء الكبير في التنقّل من مكان إلى آخر نتيجة تنقّل آلة الحرب الإسرائيلية التي لا تتوقّف عن مهاجمة أي تجمّع فلسطينيّ قاصدةً قتل أكبر عدد ممكن. إسرائيل تشنّ الحرب على الفلسطينيين جميعهم وليس على فصيل معيّن أو الفصائل المقاتلة، هذا أمر واضح جدًّا، فمقاتلو الفصائل هم من أبناء هذا الشعب وسوف يبقون ما بقي الشعب.

هذا الصمود الكبير للمقاتلين الفلسطينيين له ثمن يوميّ يدفعه أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، فهم مشرّدون أغلبهم ينام في العراء مع أطفالهم، ولا يكادون يحصلون على قوت يومهم

منذ عام 1948 يُعاني الفلسطينيون من آثار النكبة، عندما كنت طفلًا سألت أبي لماذا لا يُصلح باب الحديقة؟ أجابني بهدوء وتلقائية: "مش محرزة يابا، كلّها كام يوم وراجعين". كلّنا عشنا حياتنا في تمضية "هالكام يوم" كيفما اتّفق بانتظار العودة. ولكنّ الأحداث لم تترك لنا حتى "هالكام يوم" لنعيشها، لاحقتنا محاولات طمسنا والقضاء علينا حيثما وُجدنا، وكان لا بدّ لنا من مواجهة هذه الاعتداءات، لذلك خاض الشعب الفلسطينيّ العديد من المعارك وأغلبها كانت للدفاع عن "هالكام يوم"، حيث صار يبتعد حلم العودة، ومع تعاقب الأجيال صار الحلم أشبه بسراب يكاد يُنسى. واستكان الكثيرون إلى أنّ الفلسطينيين قد ذابوا ولم يبقَ سوى قلّة في الضفّة وغزّة سوف ينتهون ويغرقون في دوّامة من المماطلات والتوسّع الاستيطاني والتغوّل الإسرائيليّ المدعوم من مجتمع دوليّ غير عادل.

وجاء يوم السابع من أكتوبر، عملية فدائية تكاد تكون مثل غيرها، لكنّها تطوّرت وكبرت وتعدّدت أهدافها لتؤدّي إلى مقتل أكثر من ألف وثلاثمئة إسرائيليّ، وأسر حوالي ثلاثمئة آخرين؛ وجاء الردّ الإسرائيليّ العنيف بشكل غير مسبوق، فبدأ الجيش اجتياحًا عنيفًا لقطاع غزّة. وتداخلت عوامل داخلية إسرائيلية دفعت بالحكومة التي كانت تُواجه خطر إسقاطها إلى تصعيد كبير للتغطية على فسادها وسخط الناس عليها. كلّ هذا أدّى، مع مرور الوقت، إلى تعالي أصوات الكثيرين حول العالم مندّدين بالعنف الإسرائيليّ، ثمّ إلى إعادة الحكاية من أوّلها، ليس إلى احتلال عام 1967 كما دأبت الكثير من الأوساط الدولية على الترويج، بل إلى أصل الحكاية منذ عام 1948 واقتلاع الشعب الفلسطينيّ من أرضه؛ صرنا نسمع اسم فلسطين في كل مدن العالم، وصار الطلاب في أرقى وأكبر جامعات العالم يحتلّون الساحات ويعتصمون من أجل فلسطين والشعب الفلسطينيّ، ولم تعد الدعاية الإسرائيلية والغربية تجد مكانًا لها، ظهرت الحكاية الحقيقية، وانكشف الظالم. ولم يعد أحد يذكر تفاصيل ما يحدث اليوم، صار الحديث عن الحقّ التاريخيّ للشعب الفلسطينيّ.

نعود إلى العنوان الذي اخترته لهذه المقالة، في رواية رجال في الشمس لغسّان كنفاني يتّفق ثلاثة لاجئين فلسطينيين مع سائق صهريج قديم على تهريبهم من البصرة في العراق إلى الكويت حيث يُمكن لهم أن يجدوا عملًا يجعلهم قادرين على إعالة أسرهم وتأمين مستقبل لائق. لكنّه لأسباب كثيرة يتأخّر على الحدود تحت شمس الصحراء القاسية، ممّا يؤدّي إلى موتهم، ويُطلق السائق جملته الشهيرة: لماذا لم يدقّوا جدران الخزّان؟ وتنتهي الرواية بهذا السؤال.

تعدّدت التحليلات ومحاولات الإجابة عن هذا السؤال، أغلب الآراء كانت أنّه الخوف هو الذي منعهم من ذلك. لكنّني ببساطة وبعد رؤية كلّ ما مرّ على الشعب الفلسطينيّ من أهوال أرى أنّه الأمل، نعم الأمل هو الذي منعهم من الدقّ على الخزّان. أملهم بأنّهم سوف يعبرون، "كلّها كام دقيقة"، هذا كان لسان حالهم، ولكنّ الدقائق طالت وأدّت إلى موتهم، كذلك طالت الأيّام مع أبي ليموت بعيدًا عن يافا، والكثير من الفلسطينيين مثله، هل قتلهم الأمل؟ بالتأكيد لا، لقد منحهم هذا الأمل سببًا للاستمرار في الحياة، مع محاولاتهم لتحسين ظروف هذه الحياة المؤقّتة. ربّما علينا الإجابة عن سؤال أخطر: أما كان أجدر لأهل غزة أن يبقوا كما هم قبل السابع من أكتوبر؟ خاصّةً أنّ التفاوض يدور الآن حول عودة الأمور إلى ما قبل السابع من أكتوبر! الجواب سهل جدًّا، لقد ركب الفلسطينيون في الخزّان لعبور الحدود فإن لم يعبروها ربّما أولى بهم أن يعودوا ليُحاولوا مرّة أخرى، ولكنّهم لن يدقّوا على الخزّان فيكتشفهم حرس الحدود ويقضي على أملهم.