17-مايو-2018

مهرجان الأديان في الهند

يُفكِّك الأنثروبولوجيّ الأمريكي مارفن هاريس (1927-2001) في كتابه "مقدّسات ومحرّمات وحروب: ألغاز الثقافة" (المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2017) ترجمة أحمد م. أحمد، الشيفرات المرتبطة بالأساطير والطقوس الدينيّة والثقافيّة الشعبيّة، وذلك في محاولةٍ جديّة لتفسير ألغازها التي تبدو للوهلة الأولى، وبحسب هاريس، غير عقلانيّة وليست قابلة للتفسير. وتاليًا، سوف يشرّح مارفن هاريس تضاريس جغرافيا هذه الألغاز بقصد إزاحة الغموض عنها من جهة، والتقاط جوهرها من جهةٍ ثانية، متجنّبًا وقوع أطروحته هذه أسيرةً لتأويلات مغلوطة أو منحازة أو متوارثة دينيًا.

يُخرج مارفن هاريس الطقوس الدينية من إطارها الشعبيّ والدينيّ والميثولوجيّ، ليضعها تحت المجهر

هكذا، سوف يُخرج مارفن هاريس مؤلّف كتاب "الإنسان والطبيعة: مقدّمة في الأنثروبولوجيا العامّة" هذه الطقوس من إطارها الشعبيّ والدينيّ والميثولوجيّ، ليضعها تحت المجهر، مُتفحِّصًا طبقاتها الخافتة والمستترة من منظور العقلانيّة – البيئية. وعلى هذا الأساس، يجهد في تفسير الألغاز التي تقف وراء تحريم تناول لحم بعض الحيوانات، كالبقر عند الهندوس، والخنزير عند اليهود والمسلمين. أضف إلى ذلك تفسيره لألغاز بعض الطقوس الشعبيّة، كالحروب البدائيّة، ومهرجانات الشتاء، وغيرها من المواضيع التي تناولها هاريس في كتابه هذا.

اقرأ/ي أيضًا: شمس الدين الكيلاني.. المثقّف الشهيد والمثقّف المتفكر في الثورة السوريّة

نقف في مقالنا هذا عند موضوع تحريم لحم البقر عند الديانة الهندوسيّة، والذي لطالما ارتبط بأسباب وتفسيرات دينيّة تفتقر إلى القدرة على الإقناع، والمجيء بأسباب عقلانية بعيدة عن الحكايات الميثولوجية التي نٌسجت حيال هذا الأمر، وباتت، بشكل أو بآخر، حكايات متوارثة ومبتذلة. غير أنّ مارفن هاريس يُفسّر الأمر هنا من منظورٍ آخر، إذ يأخذ بالحسبان الظروف البيئية والاقتصادية والاجتماعيّة المحيطة بهذا الأمر، ذلك أنّ البقرة عند الهندوس ترمز إلى كلّ شيء حيّ، وبالتالي، لا يمكن قراءة هذا اللغز بمعزل عن هذه الظروف، لا سيما وأنّ البقرة تُعتبر السبب الأوّل للجوع والفقر في الهند، ويُخلّف تحريم ذبحها ما يُقارب مئة مليون حيوان عديم النفع على قيد الحياة، عدا عن أنّها أيضًا سببًا رئيسيًا للنزاعات بين الهندوس والمسلمين من جهة، وبين الهندوس وحزب المؤتمر الحاكم في الهند من جهةٍ ثانية. وبناءً على ما ذكرناه، نجد أنفسنا إزاء أسئلة ملّحة حيال هذا اللغز/ السبب الذي يقف وراء هذا التقديس للبقرة في ظلّ ما تتسبّب به من خسائر اقتصاديّة وبشرية أيضًا.

[[{"fid":"100194","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"مقدّسات ومحرّمات وحروب: ألغاز الثقافة","field_file_image_title_text[und][0][value]":"مقدّسات ومحرّمات وحروب: ألغاز الثقافة"},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"مقدّسات ومحرّمات وحروب: ألغاز الثقافة","field_file_image_title_text[und][0][value]":"مقدّسات ومحرّمات وحروب: ألغاز الثقافة"}},"link_text":null,"attributes":{"alt":"مقدّسات ومحرّمات وحروب: ألغاز الثقافة","title":"مقدّسات ومحرّمات وحروب: ألغاز الثقافة","height":282,"width":200,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]

يشير مارفن هاريس إلى تفسير يصفه بالعملي لتقديس البقرة عند الهندوس، ويكمن في الدرجة الأولى في النقص الحاصل في عدد "الثيران" في الهند. ذلك أنّ الثور هنا لا يقلُّ أهمية عن "الجرّار" عند المزارع الهنديّ الذي ليس بمقدوره أساسًا شراءه، وبالتالي، الثور هو الجرار الذي يستخدمه المزارع لخدمة مزرعته، وجزءً رئيسيًا في نجاح موسمه الزراعيّ الذي يضمن له حياة معيشيّة جيّدة نوعًا ما. وتاليًا، إن نقص عدد الثيران يشكّل تهديدًا صريحًا لحياة المزارع الهنديّ وعائلته، ذلك أنّه لن يجد بديلًا للثور في خدمة مزرعته التي يأمّن من خلالها شروط البقاء على قيد الحياة. ما يفسّر، منطقيًا، تحريم ذبح البقرة والتمسّك بها، إذ إنّها هنا هي المنتجة للثيران، وبالتالي، هي العنصر الأساس في بقاء المزارع الهنديّ حيًّا.

يشير مارفن هاريس إلى تفسير يصفه بالعملي لتقديس البقرة عند الهندوس، ويكمن في الدرجة الأولى في النقص الحاصل في عدد "الثيران" في الهند

وعدا عن إنتاجها للثيران، ثمّة تفسير آخر يقدّمه هاريس لحب المزارعين الهنود للبقرة، يكمن هذه المرّة في عجزهم عن مواكبة الحداثة التي كانت ستوفّر لهم بدائل عنها لجهة الحراثة وتسميد المزارع وغيرها. ذلك أنّه في الوقت الذي يستخدم فيه المزارع الأمريكيّ الجرار لحراثة أرضه، ويعتمد على المواد الكيماوية لتمسيدها، يستخدم المزارع الهنديّ الثور لحراثتها وروث البقرة لتسميدها. ناهيك عن أنّه يعيد أيضًا استخدام الروث نفسه لأغراض الطبخ والبناء. ويؤكّد هاريس أنّه إن حلّت الآلات الحديثة والمكلفة محلّ الحيوانات الرخيصة، سوف ينخفض عدد المزارعين الذين يعتمدون على الزراعة لكسب العيش، ما يعني التدمير العمليّ للمزرعة العائليّة الصغيرة.

اقرأ/ي أيضًا: دلال البزري.. الحرب الأهلية اللبنانية من دفاترها

وأيضًا، يرى هاريس أنّه في حال ارتفع مستوى استهلاك لحم البقر في الهند، فإنّ ذلك سوف يحوّل الأراضي الزراعيّة من مصدر غذاء رئيسيّ للإنسان إلى مصدرٍ غذائيٍ للبقر، الأمر الذي سوف يؤدّي حتمًا إلى ارتفاع الأسعار الغذائيّة، وبالتالي، المزيد من التدهور في مستوى المعيشة لدى العائلات الهنديّة الفقيرة. ويخلص مارفن هاريس في نهاية دراسته هذه إلى القول إنّ "حب البقرة عاملٌ واحد ضمن نظام معقّد يتمفصل في المادّي والثقافي تمفصلًا دقيقًا؛ إذ يؤدّي حب البقرة إلى حشد الإمكان الكامن للبشر كي يكدحوا ضمن نظام بيئي منخفض الطاقة لا يتيح إلّا حيّزًا محدودًا من الهدر والتَّواني" (ص 33).

 

اقرأ/ي أيضًا:

تبغ وزيتون: حكايات وصور من زمن مقاوم

كتاب عزمي بشارة عن الطائفية.. تأصيل فريد في مختبر تاريخي حيّ